بقلم: عبد العزيز الرغاوي
أعشق الدارالبيضاء لأسباب لا عدَّ لها ولا حصر،فهي مسقط الرأس والقلب معا، رأيت فيها النور، وفي حواريها وأسواقها وشوارعها وأزقتها، بَلَوْتُ الحياة وأَبْلَيْتُ طفولتي وبعض شبابي،غادرتها يوما مضطرا طلبا للقمة العيش،وعدت إليها مبتهجا كما يعود الطائر إلى وَكْرِهِ بعد طول غياب،أشعر أحيانا حُيالَها ببعض النفوروالجفاء،لأنها أصبحت بدينة على نحو مقلق،
ويلزمها تدخل جراحي على وجه السرعة لشفط الدهون في جغرافيا جسدها المترهل لتسترد بعض عافيتها وخفتها ورشاقتها، كأن تُمْحى أحياءٌ بأكملها من جغرافيتها.
أعشق الدارالبيضاء لأنها في المقام الأول مدينة عُمّالية، وأنا أضع العمال مع إخوتهم الفلاحين في منزلة أرقى من كل المهن الأخرى، لأن كَدًّ العمال وتضحياتهم ومايتعرضون له من ظلم واستغلال بشع و صبرهم وجلدهم يجعلني أُكْبِرهُمْ وأعيش معهم وبينهم،إنهم حقا ملح الأرض.
وأعشق الدارالبيضاء أيضا لأنها مدينة-غول تفترس جميع الوافدين إليها من مدن بعيدة أو من قرى قصية، لكنها لاتهظمهم حقا، فهي تبتلع دون أن تمضغ كعجوز فقدت كل أسنانها ومعدتها كسلى: يأتي إليها الناس من كل حدب وصوب، ويشتغلون فيها ويقيمون فيها ماشاء الله أن يقيموا، وينجبون البنين والبنات، لكنهم يحتفظون بتقاليدهم وعاداتهم التي أَلِفوها حيث كانوا يعيشون ويستعملون اللهجة التي بواسطتها كانوا يتواصلون، الدارالبيضاء لاتهضم أحدا ولكنها تمحو الأفراد ولاتنظر إليهم إلا باعتبارهم كتلة متراصة من البشر.
الدارالبيضاء هي التي تتذكرك حينا لكنها تمحوك من الذاكرة وتنساك إلى الأبد، كما لو أنك لم تر النور من قبل، يصدر منك أي فعل شائن أو يخضع للمساءلة القانونية (بخاصة إذا نقلته الجرائدالإلكترونية وجلها صحافة رصيف لاتعنى إلا بالحوادث faits divers أوبأخبارالإثارة أوالفضائح)، يتحدث عامة الناس عنك لولعهم بهذه الأخبار المثيرة أو الفضائحية بعض الوقت، لينسوك فيما تبقى من حياة؛ في المدن الصغرى، الأمر مختلف تماما،إذا حصل وأسأت أو أخطأت، فاعلم أن أحفاد أحفادك سيحملون وزرك وسيطبعون بميسم العار والفضيحة، رغم أنه لاتزر وازرة وزر أخرى. واعلم أنك وأهلك ستصبحون حديث المجالس، تلوك الناس لحمك و أخبارك وأخبار أهلك حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
في الدارالبيضاء يمكنك أن تجد كل ماتحتاج إليه، ويمكن أن تمضي نهارك وأنت تتجول في الأسواق، لتنخرط في “حمام جماهير” un bain de foule” تقضي يومك وأن تتسكع دون أن تقتني أي شيء يذكر، وتعود أدراجك مساء إلى بيتك منهكا، ليست لك أي رغبة إلا النوم.
في الدارالبيضاء يمكنك أن تجد من يبيعك طعاما في أي ساعة من اليوم فإذا ألَمَّ بك الجوع حين يَجِنُّ الليل وأَلَحَّتْ عليك معدتك الفارغة في التماس الطعام،أي طعامٍ كان، فيمكنك أن تجد محلا يبيع سندويتشات ومأكولات أخرى “تُسْكِتُ عصافير بطنك”.
في كازابلانكا وحدها دون غيرها،عندما تقع حادثة سير في شارع، تجد الفضوليين من كل الأعمار ومن الجنسين لطيفٍه وخشِنِه “الشغوفين بالمعرفة” يجتمعون في لمح البصر حول موضع الحادثة، يمدون يد العون لجريح أو من به رضوض أوكسر، منهم من يأتي بحبة بصل ويضعها تحت منخري من أغْمِيَ عليه ليستفيق من إغماءته، وثمة من يسعى إلى رأب الصدع بين بطلي الحادثة بدعوتهما إلى الحِلم والتفاهم بينهما دون الحاجة إلى اللجوء إلى إجراءات “معاينة ” الحادثة وكل مايرافقها من وجع الدماغ، وبخاصة إذا كانت الخسائر جد طفيفة ولاتستدعي كل القلق والشنآن الذي لا طائل يرجى منه.
هي مدينة الفوارق الطبقية الصارخة، فهناك من يقيم في فيلا أفخم من قصر، رخامها وأثاثها مستوردان من الخارج تصيب من يسمع ثمنها بالدوار، وبجانبها أكواخ من خشب وقصدير، يعيش فيها فقراء معدمون، بالكاد يكسبون قوت يومهم، وماينفقونه من مال ليقتاتوا وليشتروا مايحتاجونه في شهر واحد وهُمْ أفراد كُثر، ينفقه جارهم مالك الفيلا ليقتني غذاء لكلبه الذي يأخذه صاحبه لزيارة الطبيب بانتظام، في حين أن جيرانه المعدمين يقصدون المستوصف أو المستشفى دون أن يحظوا بفحص ولابغيره، بل لايجدون من يبثونه شكواهم وسوء حالهم.
وثمة فيها من يشتري ثيابا من تصميم أشهر المصممين بأثمنة خيالية، في حين تبحث فئة عريضة من البيضاويين عن ملابس مستعملة يرتدونها تستر أبدانهم وهم قانعون بالقسمة والنصيب.
لكن رغم كل الفوضى التي تشهدها ورغم كل الضجيج الذي تعرفه شوارعها ورغم معدلات التلوث القياسية تبقى مدينة تفتن زائرها بل ثمة من يزورونها بين الحين والآخر ولكنهم في لحظة سهو أو جنون يقيمون فيها إلى أن يلاقوا ربهم، فيدفنون في مقابرها، ليمتزج رُفاتهم بتربتها إلى الأبد