بقلم: الكاتب و المسرحي أيوب العياسي
لقد فرح الوسط الثقافي بأكمله حين تم الإعلان عن فوز الشاعر المغربي أحمد لمسيح بجائزة المغرب للكتاب في جنس الشعر. ولطالما إعتقد البعض، أو أرادوا، أن الزجل مجرد كلام مقفى لا يرقى للشعر الفصيح… ومن يمكنه أن يقول أن أشعار أحمد لمسيح ومراد القادري والفنان المسرحي الراحل أحمد الطيب العلج، ليست بنفس الغنى من الصور والعواطف التي يحملها ديوان الشعر المغربي الفصيح؟! إن لم تكن من أكثرها رسما في أغوار النفس البشرية. وها هي اللجنة الموكل إليها إختيار الأعمال المتوجة لهذه الجائزة، تؤكد من خلال تتويجها للشاعر أحمد لمسيح، أن الشعر المغربي بالدارجة يمكنه أن ينال أرفع الجوائز الأدبية في الوطن. وأن يكون المتوج في جنس الشعر. ولعل أحمد لمسيح يستحق التكريم شاعرا وإنسانا له مسار متميز، في دروب النضال والأدب والتدبير الثقافي.
لقد جاء أحمد لمسيح، بعدما خاض النضال بما كان يعنيه من ضريبة خلال سنوات الرصاص، صحبة رفيقه وصديقه محمد الأشعري إلى زنقة غاندي بالرباط، حيث مقر وزارة الثقافة، حينما تم تعيين الأشعري من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، الذي سأل الوزير الجديد أمام زملائه في حكومة التناوب برئاسة الوزير الأول السي عبد الرحمان اليوسفي : “هل تظن أنه سيكون لك وقت لكتابة الشعر مع هذه المسؤولية الجديدة”. جاء المناضلين معا إلى الوزارة حاملين تصورات جديدة، وكان لمسيح عضوا بارزا في ديوان الوزير ثم مفتشا عاما للوزارة، بعدما امتدت التجربة لولايتين حكوميتين، مدة عشر سنوات…
بسرعة، أحمد لمسيح ” توحش راسو” وأصابه غير قليل من الإحباط، عن حدود الممكن في التدبير الحكومي. رغم الأوراش الكبرى التي أطلقها مع الأشعري في الوزارة، والتي استقبلها كل المثقفين والمواطنين المولعين بالعمل الثقافي بترحيب كبير، في كل من مجالات الكتاب والمسرح والتشكيل والموسيقى والمهرجانات والتظاهرات الثقافية ودور الثقافة… وكلها كانت تصبو في اتجاه دعم حق المواطن في الوصول إلى الثقافة، أو بالأحرى وصولها إليه! وأذكر من تلك الحقبة، كيف نهض مواطن من مقعده ليتركه للوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي، ليتمكن من متابعة مسرحية “البتول” لثريا جبران بالمركب الثقافي ثريا السقاط. ولم يكن ذلك المواطن غير أحمد لمسيح، مستشار وزير الثقافة.
كما أذكر كيف رفض لمسيح أن أترك له مقعدي ونحن نتابع مناقشة الشاعر حسن نجمي لأطروحته لنيل شهادة الدكتوراه حول فن العيطة، في رحاب المقر القديم للمكتبة الوطنية. وأصر على أن يظل جالسا القرفصاء وهو يقول ضاحكا : ” لم نجلس منذ عشر سنوات”. وكان لم يبق حينها أمام حكومة السيد ادريس جطو إلا بضع أشهر على انتهاء مهامها. يحكي الشاعر أحمد لمسيح، كيف أنه ظل منذ تعيينه مستشارا في وزارة الثقافة، قادما إليها من التدريس في وزارة التربية الوطنية، كيف ظل يحمل في حقيبته اليدوية آخر طبشورة إستعملها في القسم وممحاة السبورة. كان يطل عليها داخل الحقيبة بين حين وآخر. بالنسبة له، كانت تعني أنه مستعد، في أي لحظة، أن يترك كل شيء ويعود إلى حجرة الدرس. هو درس حقيقي لمن ينسون داخل الإدارات والوزارات والدواوين، من أين جاؤوا وأنهم سائرون إلى زوال. تماما كما الفناء مصيرنا جميعا…
لا يبقى من المدبرين إلا ما قدموه من خدمات لقطاعات مسؤوليتهم. وودهم في الإستقبال وقضاء حوائج الناس، دون أن ينتظروا على ذلك جزاءا ولا شكورا… لمسيح ظل شاعرا مجذوبا وهو يتحمل المسؤولية، فلم يستعصى عليه مغادرتها. لأن مكانه بين المثقفين والشعراء ظل موجودا. وكأنه لم يغادره يوما إلى الصف الآخر. أما نصوصه الشعرية فقد أرخ بها لمراحل وأشخاص وصداقات… وهي خير دليل على الروح السامية لشخص لم يتنكر يوما للطبشورة ولم يتخلى على الورقة والقلم. ولو أن إسمه أكبر من الحاجة إلى الإقناع، فكان لابد للجنة اختيار المتوجين بجائزة المغرب للكتاب أن تقتنع عبر شعره المتميز، كنص وكحالة شعرية، أن الزجل يظاهي الشعر الفصيح في ديواننا الشعري المغربي.
فهنيئا للسي أحمد بالجائزة، وهنيئا لنا به شاعرا يعيد بناء اللغة الدارجة المغربية لإغناء مخيالنا الجماعي.