وصل رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو ساشيز، أمس الأربعاء، إلى المغرب، في زيارة عمل وصداقة إلى المملكة. ومنذ طي ملف استقبال إبراهيم غالي، زعيم الانفصاليين المغاربة في الصحراء، بتلك الطريقة السرية المكشوفة في حينها، وباسم مستعار، وما تلا ذلك من اعتراف رسمي للدولة الإسبانية بالحقوق المغربية الترابية، تسارعت وتيرة العلاقات المغربية- الإسبانية، وأخذت تتجذر متانة وعمقا.
في هذه الورقة، بمناسبة الزيارة الحالية، استحضار للتاريخ والمستقبل، من مشترك ثقافي- حضاري أصيل.
بين المغرب وشبه الجزيرة الإيبيرية أكثر من سبب. فالجوار القائم، بفعل الجغرافيا، لم يكف عن تجذير فعله التواصلي يوما، حتى في أشد اللحظات انكماشا وانغلاقا. ولهذا، يبدو طبيعيا أن يستلزم القرب الجغرافي التواصل الثقافي، بما يجعل للبحر المتوسط أكثر من معنى مادي ورمزي. إنه فعل الماء، أو بالأحرى سحره، ذلك المتموج المنطلق، الذي لا تفتر حركته، حاملا السفن والسلع والرجال والأفكار بين الضفتين.
لم يكن التواصل سلسا في مرات عديدة، بالنظر إلى بروز بعض عناصر التوجس بين الفينة والأخرى. غير أن تلك العناصر، القائمة نتيجة الاختلاف في أمور محددة، هي ذات العناصر التي تجعل من التلاقي أمرا واقعيا. والسبب، في ذلك، يعود إلى التاريخ، إلى قدرته الحكيمة على التهجين، باعتباره عملية مزج بالمعنى الإثنولوجي، أو مثاقفة بالمعنى الإنتربولوجي. التمازج والتواصل والتثاقف، تبدو توصيفات لتلك الحركة الدائبة المتبادلة، التي نسميها التاريخ الجماعي المشترك اختصارا. فحتى القلاع والحصون والرباطات، مع ما تستثيره في الذاكرة من لحظات عدم ثقة، حتى وعنف أحيانا، تشهد على مظاهر الإرث الثقافي/ الحضاري المشترك إلى اليوم.
الإيبيريون يقيمون في المغرب، مثلما يقيم المغاربة في إيبيريا. الأمر لا يتصل بالأدب والموسيقى والمعمار والطبخ فقط، بقدر ما يتصل بالمزاج الذي ما انفكت تَمْهَرُهُ ثقافة البحر المتوسط. القصور، بحدائقها ونوافيرها، والقلاع، بأسوارها وتحصيناتها، والمخطوطات، بعلومها وآدابها وفنونها.. تصير شواهد حية على حياة مشتركة، تتأبى على المحو والنسيان. أو ليست الأندلس، بعد أن كفّت عنها حدود الجغرافيا واعتباراتها، تقيم في الخيال الجماعي المشترك؟
إن عناصر الدين والدم واللغة، لم تكن فاعلة، دوما، في استثارة التوجس وعدم الثقة. الجغرافيا، المرسومة بحدود السلطة القائمة، تعتبر أكثر حسما في تلك الاستثارة. أو لم يكن المعتضد العبادي، والد المعتمد، يتوجس من نزول المرابطين رحبة مراكش؟ أو لم يكن يتوقع، بذلك، حدوث انفصال بين جغرافيتين/ حكمين..بالرغم من العناصر المشتركة المذكورة؟
الخطر الداهم من إحدى الضفتين، من الشمال أوالجنوب، ظل يُجَذِّر فعله في المخيِّلة والوجدان على مر الحقب والعصور. واليوم، يمكن للبعض أن يستطيب تأكيد ذلك الحكم التاريخي القاسي، الصادر منذ نزول المرابطين رحبة مراكش، في ضوء ما يحكى عن اتساع ظاهرة الهجرة السرية، وما بات يرافقها من مظاهر سلبية أخرى.
القراءة الانتقائية لبعض أحداث التاريخ، غالبا ما تضمر بعض الأحكام القيمية الجاهزة. فالتاريخ، في حركيته، لم يشأ أن يختط لنفسه مسارا وحيدا، في هذا الاتجاه أو ذاك. ومن ثم، يجذر بأية قراءة مختارة أن تكون إيجابية، إن أُريد لدواعي سوء الفهم التاريخي أن تضمحل وتزول. وبطبيعة الحال، ليس من عنوان أكثر دلالة على المراد من الأندلس، مزاجا وتاريخا وحضارة. فقد دلت هذه الأندلس، في حقيقة وجودها، على رقي ثقافي/ حضاري، أسسه االتسامح والتعايش والتعاون.
وإلى تاريخنا الجاري، تظل الأندلس الجنة التي تهفو إليها العيون والقلوب، من الضفتين على حد سواء. ولذلك، تبدو الإقامة في الأندلس بمثابة الإقامة في جنة الفتنة والسحر الحضاريين. لقد أبت الأندلس إلا أن تضم الضفتين بجناحيها، مُحوِّلة كل ضيق بالآخر إلى سعة، وكل توجس إلى ثقة، وكل انغلاق إلى انفتاح.
والعجيب أن هذه الجنة الأندلسية اتسعت بشكل كبير، إلى درجة أن صارت لها امتدادات ثقافية- حضارية، تعدت شمال إفريقيا والشرق الأوسط إلى أمريكا اللاتينية.
هكذا، تبدو الحضارة الأندلسية علامة تميز، وبتعبير آخر علامة على رقي حضاري. الحدائق الأندلسية، بهذا الخصوص، توحي بأكثر من دلالة ورمزية. والحقيقة أن ما من تواصل يمكن أن ينشأ، إلا وينبغي أن تكون الأندلس بؤرته، خصوصا في ظل التقاطب/ الصراع الحضاري المفترض اليوم. فالأندلس، ظلت باستمرار، في المخيلة، مركز جذب وتفاعل بين الشمال والجنوب، بين الشرق والغرب، بين الإسلام والمسيحية.. بين العرب والقوط، بين العرب والبربر، وهكذا.
إذاً، كيف يمكن تحويل المشترك الحضاري الأندلسي إلى حوار وتفاعل إيجابيين، من شأنهما أن يُلافيا كثيرا من سوء الفهم التاريخي من جهة، و يرسخا قيم الثقة والنظر المتسامح البناء من جهة أخرى؟ ولعل مقاربة هذا السؤال، قُدِّر لها أن تتحقق في أكثر من صيغة جواب، عبر كثير من المبادرات المادية والرمزية المتلاحقة، على مر الأعصر والحقب. وفي هذا، تندرج أهمية الدبلوماسية الثقافية، بالنظر إلى ما تساهم به في ترسيخ قيم التعاون المطلوبة، وبالتالي يحد- إن لم يستأصل- فاعلية الأحكام الجاهزة المطلقة. ولذلك، تكتسي هذه الدبلوماسية بُعدا استراتيجيا، من هذه الناحية، في سياق ما يساهم في تعضيد باقي المبادرات الدبلوماسية الأخرى، ومنها السياسية والاقتصادية والرياضية.