وهو يجالسني بالمقهى،تحدث لي كثيرا عن اعتزازه ببداوته وأنها سنده في التمدن والتحضر. أصرعلى أخلاقه وعلى “تميز البدو العروبيين عن باقي الأعراق بكونهم ليسوا متعصبين لقبليتهم.” هذا في نظره على الأقل!
ومن حديث لآخر، حكى لي كيف وجد نفسه وهو الرجل الستيني الذي لا تقاعد له والذي بعد أن توالت في مساره المهني والحياتي المهن والتعاقدات والإشتغال “عطشا” أو بالمهمة ومن دون عقد “في الأسود”… وبلغ سنه هذه، دون الحصول على تقاعد يمكنه من الخلود إلى الراحة وتفادي نوبات الزمن وتقلباته؛ وجد نفسه يمتهن سياقة الطاكسي، بما يسببه ذلك من ضغط على صحته، مع صعوبة إرضاء كل الزبائن وتطبيق القانون! ولم يغفل في حديثه، الإشارة لمنافسة التطبيقات الغير المعترف بها رسميا. والتي تقترح على الزبناء رحلات على متن سيارات خاصة أوسيارات أجرة… والتي غدا يفضلها بعض الزبناء، وإن لم يكن مرخص لها… وتلك حكاية أخرى!
سار بنا الحديث، إلى أن أخبرني أن أصغر أبنائه سيجتاز الباكالوريا هذه السنة. وأنه اقترح عليه الذهاب إلى مدينة بني ملال، حيث لا إكتظاظ ولا ضغط بخلاف البيضاء، عند أخته الكبرى المتزوجة هناك، في منزلها. وحرص على تسجيله في ثانوية هناك. لعل أبناء المدينة أكثر جدية من مراهقي البيضاء. وخاصة، لعل في المدينة الهادئة أقل إغراءات قد تدعو للإنحراف. وأقل تأثيرات لزملائه من الشباب، ممن قد يشجعوه على ذلك… وأقل فضاءات للهو دون فائدة وتزجية الوقت…
لكن المطب الحقيقي، هو أن الإبن ذهب إلى بني ملال، ومباشرة بعدها إنطلق الإضراب، الذي كان عرفه قطاع التربية الوطنية لشهور، أعاقت انطلاق السنة الدراسية؛ إلى غاية مطلع السنة الميلادية الجديدة. حيث توصلت الحكومة إلى حل مع النقابات… لكن هل توصلنا إلى حل لمعظلة التعليم؟! يقول الأب المتحدث في قصتنا الواقعية هذه، أنه غدا متهما من طرف إبنه بمجرد نية إبعاده عن الدارالبيضاء، دون رغبة حقيقية في أن يوفر له مناخا مناسبا للدراسة ولتحضير امتحان الباكالوريا، كما تبدت النية في البداية!!! وهل نوفر لأبنائنا المناخ المناسب داخل المؤسسات التعليمية؟ فالوطن واحد أيا كان حجم المدن… وهل يمكن أن نسير في نهج أي تقدم، دون إصلاح المنظومة التعليمية؟ وهل من باب العدالة الإجتماعية في شيء، أن تجد عائلات متوسطة أو محدودة الدخل نفسها مجبرة على أداء أثمنة باهظة لتمدرس أبنائها في القطاع الخاص؛ وفي المقابل، من تلزمه الظروف بالتمدرس في التعليم العمومي لا يجد نفس الجودة المأمولة في المدرسة العمومية. وإن كانت فضاءاتها أرحب لا تعوزها إلا بعض الإمكانيات اللوجيستيكية وتقوية مواردها البشرية؟!!
كما أن أساتذة المدرسة العمومية، وإن كان من حقهم الإحتجاج على أوضاع لا تخدم في شيء جودة التعلمات، فهل كان من حقهم أخد أبناء هذا الوطن رهينة للحصول على مطالبهم، وإن كانت مشروعة؟!! وكيف سيتم استدراك ماضاع من دروس في هذه السنة؟ الدعم المدرسي؟ هل هي طريقة ليعرف أبناء الفقراء، منذ صغرهم، أن قدرهم ألا يعيشوا على حقوقهم، في مقابل المطلوب منهم من واجبات. وإنما الدعم والمساعدة الإجتماعية هي وسيلتهم الأبدية للعبور نحو ضفاف العيش الكريم، إن استطاعوا إليه سبيلا!
سيتحول الأساتذة، كما في باقي دول العالم، إلى هلوغرامات تدرس في نفس الحين في حجرات درس مختلفة وبقاع مختلفة من الجغرافيا… وستصير مواد البرمجة والتعامل مع الذكاء الإصطناعي، أهم من اللغات والنحو والصرف والتحويل والإعراب… وسنكون كدول إفريقيا جنوب الصحراء، ممن تعرفوا مباشرة على الهاتف النقال، دون أن يكون لهم الهاتف التابث…وهكذا سنغازل ربما الروبوت، قبل أن تكون لنا مرافق عمومية مرقمنة بالشكل الكلاسيكي. لكن هل سألنا أنفسنا ماذا نريد من التعليم كمنظومة قيم، يمكنها وحدها أن تكون سلاحنا في درب التقدم؟ أم أننا فقط نريد مجابهة الحقيقة، بتفويت ما تبقى من مؤسسات تعليمية عمومية إلى القطاع الخاص؟!! والذي مهما كانت جودة خدماته، وما يغلفها من شعارات ماركوتينغ، فإنها تظل باهظة الثمن، في ظل خدمة الأصل فيها أن تضمنها الدولة، على الأقل في الطور الأساسي.