صدر للكاتب و الصحفي عبد الحميد جماهري مقال جد مفيد في موقع “العربي الجديد” يتطرق فيه إلى آفة دخول “البارونات” إلى المؤسّسات المنتخبة”. و نظرا لأهمية المقال في فهم واقع بعض النخب السياسية المغربية و دورها في فرملة الإصلاح و تعميق أعطاب المؤسسات، نعيد نشره بالكامل.
قد يبدو هذا مفارقا، بالنسبة لأي دولة، لكن المنتج المنطقي لبعض نقائص الممارسة السياسية، في الديمقراطيات التمثيلية قد يكون مواجهة القدرة الإصلاحية للدولة، بضعف النخب التي تقدّمها الأحزاب السياسية في الاقتراعات الانتخابية أو فسادها من أجل إضعاف قدرتها على مواصلة الإصلاح.
في المغرب هناك حالة “مدرسية” لمثل هذا التساؤل، مبنية على وقائع وحقائق قائمة. ومن ذلك، أن تخليد الذكرى الستينية للبرلمان المغربي تتزامن هذه السنة مع وجود حالة تجريم واسعة للنخبة التي أفرزتها صناديق الاقتراع. كما تتزامن، في الوقت ذاته، مع رسالة ملك المغرب، محمد السادس، الى المشاركين في ندوة خاصة بالذكرى، شدّدت، بما لا يدع مجالا للشك، على ضرورة تجاوز هذا الطعن الأخلاقي الذي يرافق الولاية التشريعية الحالية. وإذا كانت مخاوف تبخيس الحياة السياسية تدفع كثيرين إلى التروّي وعدم رمي الصبي بماء الغسيل، كما يقول المثل الفرنسي، فإن مسؤولية تحصين الانتخابات شرط وجوب في بناء مؤسّساتٍ سليمة، صارت موضع خطاب سياسي متنامٍ يدعو إلى الشروع في التفكير في الإصلاحات السياسية والمؤسساتية التي تستوجبها المرحلة.
وفي قلب هذا الأفق، توجد دينامية يسارية لحزبين في المعارضة، “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” و”التقدّم والاشتراكية” اللذين سنّا لنفسيهما برنامج عمل مشترك. فقد اهتز الرأي العام المغربي، في الشهور القليلة الماضية، على إيقاع اعتقالاتٍ ومحاكماتٍ ذات طابع حسّاس ومثير للإثارة، بالمعنى الإعلامي. وكانت تلك مناسبة لسيل من الكتابات والتعاليق والأخبار (منها الزائف نيوز)، والقليل من التأطير العام تحت بند المسؤولية، ومنها المسؤولية القضائية وقبلها الأخلاقية.
ولعلّ النقاش ما زال متواصلاً، في تحديد درجات طبيعة هاته المتابعات من زوايا مختلفة، أهمّها زاوية السيادة الشعبية في زمن سياسي موسوم بمفارقاتٍ طاحنة، لعل أهمها وجود فتور سياسي داخل المؤسّسات المعنية بالسياسة والفضاء العام كمكون إجباري في بناء الديمقراطية، مقابل وجود “حريق مهول” في التواصل الاجتماعي وأمام المحاكم وبعض مؤسّسات الحكامة، كما هو المجلس الأعلى للحسابات الذي يعدّ عين الدولة على مالها العمومي.
أحد الملفّات الحارقة، الذي صار يعرف باسم “أسكوبار الصحراء”، حيث اجتمعت كل عناصر التشويق السينمائي والإعلامي من مخدرات وانتخابات ومال وتهريب وقضاء، و”عسكر وحرامية” على حد قول إخواننا في الشرق، هو موضوع ذهول سياسي. وبالرغم من أن المتابعين فيه من المنتخبين لا يتعدّون ثلاثة أنفار، مقابل قرابة عشرين من غير المنتخبين، فإن الأضواء مسلّطة على رئيس جهة شرق المغرب ورئيس مجلس عمالة (محافظة) الدار البيضاء، القلب النابض للعاصمة الاقتصادية ولأكبر جهة في البلاد، وهما برلمانيان ومسؤولان عن تسيير جماعتين ترابيّتين مهمتين للغاية.
ولعل مردّ هذا الاهتمام الواسع أن التمثيلية السياسية ليست فقط عتبة ضرورية في مصداقية الديمقراطية والسيادة الشعبية عند صاحبها الشعب، بل تعدّ في سياق تصليب بناء الدولة ـ الأمة ضرورة دقيقة للتفكير في طبيعة الدولة المغربية نفسها وفي عملية شرعنَتِها، ولعلها صارت، في اللحظة الحالية، أحد عناصر تقدير معنى المسؤولية وفهمه في الوضع السياسي الراهن.
وبهذا المعنى، يجب أن نفهم تركيز الملك محمد السادس في اللحظة الراهنة على ضرورة الاتفاق السياسي الوطني على “إقرار مدونة للأخلاقيات في المؤسسة التشريعية ذات طابع قانوني ملزم”. في الواقع، ليست المرّة الأولى التي يدعو فيها الملك إلى مثل هذا الميثاق الأخلاقي، حيث سبق له أن دعا في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2014، في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية التاسعة إلى “اعتماد ميثاق حقيقي لأخلاقيات العمل السياسي، بشكل عام، من دون الاقتصار على بعض المواد، المدرجة ضمن النظامين الداخليين لمجلسي البرلمان”.
وعليه يستوجب التحليل المركزي على القواعد التالية: أولا، هي المرّة الأولى الذي يتحدّث محمد السادس، رئيس الدولة وملك البلاد وأمير المؤمنين وضامن حُسن سير المؤسّسات، عن “طابع قانوني ملزم”. ثانيا، هناك ربط بين المدوّنة وطابعها الأمامي والرفع من مستوى النخب، داخل المؤسسات التمثيلية المفروض فيها أن تقدم للدولة (وهي هنا بمعنى الكيان وليس الجهاز فقط) تلك النخب التي تساير الأهداف الكبرى المرسومة للبلاد.
ولقد تبيّن من خلال الدعوة الأولى للملك، وكذا من خلال مجريات الفعل السياسي اليومي ووقائعه، أن هناك قدرة لبعض الطبقة السياسية، كما تشكّلت في العقود الأخيرة على جرّ الإصلاح نحو الأسفل، أكثر من الارتقاء به إلى ما هو في مستوى السقف المطلوب أو المفروض تجاوزه. ولنا أن نستحضر اليوم مثال الخطب الملكية الكثيرة عن ضرورة إصلاح اللاتمركز الإداري، الذي يسمح بتحويل اختصاصات المركز وصلاحياته إلى الأقاليم والجهات، حيث بلغ عددها 17 خطابا، قبل أن يبدأ التنزيل، بعملية قيصرية تقريبا!
وهو ما يكشف عن ميل الطبقة السياسية، أو التي لم ترضع روح الإصلاح منذ نشأتها إلى اعتبار الخطاب الملكي نهاية السياسة، وليس منطلق عملية جديدة تسعى نحو الأفضل. كما يكشف عن طبيعة ما يريده اليوم الفاعل المركزي في الدولة من خلال ربط جدلي بين ثابتَين، أولهما الخيار الديمقراطي والتنموي، وثانيهما الإصلاحات العميقة، وهما لن يتما بدون منظومة قيم تعلي من شأن “أخلاق المسؤولية”. كما لن يتم مبتغى الإصلاح في تغيير طبيعة العلاقة بين الدولة وفساد نخبها ونخب المجتمع معا. إذ، طالما ربط المحللون والمؤرّخون وفلاسفة السياسة بين الفساد والريع وغياب المحاسبة وبين طبيعة الحكم، منذ مكيافيللي وكتابه “الأمير” وتسييره الحكم. ولم يشذ النظام السياسي المغربي عن هذه القاعدة، عندما كان الريع والرشوة نظام حكم، قبل “دسترة” ربط المسؤولية بالمحاسبة، في دستور 2011، وصلت إلى حد إحداث زلزال سياسي كان منبعه القصر الملكي نفسه، كما حدث في أكتوبر/ تشرين الأول 2017.
ومن طبيعة المرحلة أن المطالبة بتوافق سياسي على استبعاد “البارونات”، كما كشف عن ذلك زعيم حزب المعارضة اليسارية الأولى في البلاد، كان قد وصلت إلى مرحلة ما يشبه الاتفاق أو القرار في الفترة السابقة عن اقتراعات 8 سبتمبر/ أيلول 2021، قبل أن تنقلب أطراف سياسية عن ذلك، وتفتح الطريق السيّار لدخول “البارونات” إلى المؤسّسات المنتخبة، وعليه الدفع بالسيادة الشعبية، التي هي جوهر الديمقراطية، إلى أن تكون فرملة لإصلاح الدولة والرفع من مستوى النخب، كما يتطلّب ذلك مغرب اليوم والغد. ولم يتردّد كاتب هذه السطور في التذكير بإحدى أقسى خلاصات تقرير صادر عن المرصد الجيوسياسي للمخدرات، والذي نبّه في تسعينيات القرن الماضي إلى خطورة “تعميم النموذج الكولومبي”، بوصول تجّار المخدّرات إلى مؤسّسات القرار وترويضها على مسايرة مزاجهم المصالحي. ومن الألطاف السياسية أن ملك البلاد تجاوب مع النبض السياسي الجماعي الذي يطعن أخلاقيا في الانتخابات، ويعبّر عن ذلك بعجز كبير في الثقة.
لقد صار تشويه السيادة الشعبية سلوكا يتجاوز التوازن التقليدي بين الأحزاب، كتعبيرات مدنية ومجتمعية، بل الأنكى يتمثّل في أنها صارت أداة لفرملة الإصلاح وتعميق أعطاب المؤسّسات، وبالتالي، تخفيض سقف مساهماتها في مشاريع الإقلاع والريادة الإقليمية. وهو ما لا يمكن للدولة أن تسمح به، هي التي انخرطت في التزامات دولية في محاربة الفساد، منها التزام “ميثاق مراكش” الذي صار وثيقةً أمميةً، ثم التزام أذرع الدولة في محاربة الجريمة المنظّمة والمخدّرات، والتي ستحتضن مؤتمرات الإنتربول في السنة المقبلة.