تشهد الإنسانية مأساة كبرى، جراء حرب الإبادة التي يشنها كيان الصهاينة على قطاع غزة. ما يحدث من جرائم حرب، هناك، لابد من ان يترك ندوبا عميقة على الضمير الإنساني. في السياق، يمكن الإشارة إلى ان أهم سلاح امتلكه الصهاينة، في محاولاتهم المتكررة لاستدرار عطف الشعوب، والمنتظم الدولي بالموازاة، كانت “المحرقة” التي راح ضحيتها يهود أوروبا، قبل عدة عقود. اليوم، نحن أمام محرقة أفظع وابشع، انضاف فيها اغتصاب الارض وسلب الحرية، إلى التجويع، والتهجير، والتقتيل.
كل المسوغات الموضوعة لتبرير محرقة غزة، من قبل دولة الاحتلال والولايات المتحدة الأمريكية ومعظم دول أوروبا، أخذت تتآكل من هول ما يحصل للغزيين، طوال أكثر من شهر على الأقل. ان مسوغ حق الدفاع عن النفس، الذي طالما تمت به تغطية جرائم الاحتلال، لا يستقيم ووجود احتلال للأرض، وسلب للحرية، ورفص لتقرير المصير.
الاحتلال هو السبب الأول و الأخير لما يقع في غزة، وفي فلسطين بأكملها، منذ أكثر من سبعين عاما. كل احتلال يقتضي مقاومة، مثلما تؤكد هذا الحق كافة الشرائع، والقوانين والمواثيق الدولية. لولا رد المقاومة، في السابع من أكتوبر الماضي، لما كان لصوت الحرية الفلسطيني ان يرتفع، في ظل مختلف محاولات الإقبار، التي كانت تجري لإنهاء “القضية”، وبالأخص بعد مفاوضات التطبيع الأخيرة، بين السعودية وإسرائيل.
ما منح للأوكران من حق، لمقاومة التدخل الروسي، باعتباره حقا مبدئيا أصيلا، يتم تحريمه على الفلسطينيين، بل وتجريمه تحت بند “الإرهاب”. كيفما كان الرد الفلسطيني على الاحتلال، وضمن أي إطار يساري أو إسلامي، فإنه يندرج باعتباره فعل مقاومة شرعيا وقانونيا.
كثيرا ما وصف سلوك الغرب، في تعاطيه مع المقاومة الفلسطينية، بكونه نفاقا، بوقوعه تحت طائلة “الكيل بمكيالين”. لقد بدا رد الغرب، بعد أحداث السابع من أكتوبر، مجمعا على إدانة طوفان الأقصى. البطاقة البيضاء (أو الخضراء)، التي منحت لدولة الاحتلال، لفعل ما تشاء بغزة واهلها، كانت التعبير الأوفى عن ذلك الاصطفاف الأعمى.
ومع ذلك، وفي سياق المحنة الإنسانية، التي يكابدها كل ذي ضمير حي، بتنا نتابع ترنح الموقف الغربي، بحكم ما يعيشه من تناقض صارخ مع ما ظل يدعو إليه من قيم، مجسدة في ثقافة حقوق الانسان. حالة الرئيس ماكرون، من خلال مساندته المطلقة لنتانياهو بداية، ثم تقييدها بتجنب قصف الأطفال والنساء لاحقا، ثم التراجع عما قام به من تقييد اخيرا، يظهر انتصار الموقف السياسي البراغماتي، على حساب الموقف الإنساني المبدئي. رسالة سفراء فرنسا، في دول عربية عدة، إلى ماكرون، توضح ان الموقف السياسي نفسه حاد عن جادة التموضع السليم، القائم على مبدأ التوازن في الموقف من الصراع العربي- الإسرائيلي، كما كان الحال عليه مع مختلف الرؤساء الفرنسيين السابقين.
أكبر خاسر، مما يحدث في غزة، هو النفس البشرية، التي تهدر بشكل عشوائي. اما الخاسر الثاني، فهو قيم حقوق الانسان ذاتها، التي ظلت تعلي للغرب، سواء في أوروبا ام في أمريكا، صوتا في وجه الشعوب الأخرى (بحق او بغير حق). كيف لهذا الغرب “المنافق”، ومنذ الآن، ان يتدخل تحت ذريعة الاعتداء على حقوق الانسان، في هذا البلد أو في ذاك.
ان صرخة غوتيريش المعزولة، ولو في حدودها الدنيا، مما يحصل من إبادة جماعية، باتت تعبر عن المأزق الحقوقي، الذي صار يقع فيه الغرب الصهيوني، من جراء الاصطفاف الاهوج الرافض لدعوات إيقاف الحرب. وعلى الرغم من ذلك، فالرجاء معقود، اليوم، في ما نتابعه من احتجاجات شعبية، أوروبية وأمريكية، ضد الحرب المتصاعدة على غزة. زعماء السياسة الغربية، في إطار حساباتهم البراغماتية الضيقة، صاروا يقيمون في عزلة أكبر حاليا. هل يدعو هذا إلى التفاؤل بانتصار الحق على الظلم، الحرية على الاحتلال، المبدئية على البراغماتية؟