الحرب على غزة و حساباتها المختلفة (بقلم: عبد الدين حمروش)

سيظل السابع من أكتوبر يوما مشهودا، في تاريخ الصراع الفلسطيني/ العربي ضد دولة الاحتلال الصهيونية. كل ما استقر عن مناعة هذه الدولة، عسكرياً وأمنيا ومخابراتيا، أصبح في حكم المفقود. ما ان انقشع الظلام في ذلك اليوم التاريخي، بعد اختراق كتائب عز الدين القسام مستوطنات غلاف غزة، حتى اتضح ان اسرائيل، التي كانت تقدم نفسها باعتبارها نموذجا في الحصانة الأمنية، مجرد “بيت” أوهى من بيت العنكبوت.

بعد الذي حصل في ذلك اليوم، لم يعد لدولة الابارتهايد تلك الهيبة العسكرية- المخابراتية، التي جعلتها “ورقة رهان رابحة” لعقد شراكات عسكرية في المنطقة. وعلى العكس من ذلك، فبدلا من ان تكون اسرائيل ذراع الغرب العسكرية (وتحديداً الولايات المتحده الأمريكية)، صارت في وضع مستجد، هي فيه أحوج إلى الحماية من مغبة الانهيار. زيارات رؤساء دول الغرب إلى دولة الكيان، إضافة إلى تداعي حاملات طائراتها في شرق المتوسط، مجرد مؤشرين على الوضع الصعب، الذي بات الصهاينة يعيشونه اليوم.

“طوفان الأقصى”، كما حملته أحداث السابع من أكتوبر، سيشكل انقلابا جذريا على أكثر من صعيد: في النظريات العسكرية، وفي التوازنات المسقبلية في المنطقة، وفي الثقة الأمنية الإسرائيلية الداخلية، وفي مسار قضية التحرر الفلسطينية. ونظرا لضخامة الحدث، الذي وقعته كتائب القسام، فإن تحديات الأطراف المعنية به ستكون على طرفي نقيض:

– طرف اسرائيلي (مدعم بالغرب وبعض الدول العربية): هذا الطرف الذي تعرض لاختراق أمني واستخباراتي كبير، جعل قادة الكيان يستشعرون تهديدا فادحا باستمرار وجود الدولة نفسها، وبالتالي دفعهم إلى ان يمعنوا في إحراق غزة بسكانها، ضاربين بعرض الحائط كل المحاذير الأممية، في ما يخص حماية المدنيين، وعدم قصف المستشفيات، وعدم قطع الماء والكهرباء عن السكان إلخ. وفي ظل غياب أي إنجاز عسكري لقوات الدفاع الإسرائيلية، حتى الساعة، فإن الخيار الوحيد هو التمادي في عقاب سكان غزة.

إلى متى سيستمر هذا العقاب الجماعي، هو السؤال الأكثر إلحاحا على صانعي القرار السياسي والعسكري في اسرائيل اليوم؟ إلى أي مدى ستستمر محرقة غزة، لكي يدرك نتانياهو ان الدولة، التي يرأس حكومتها، قد حققت منسوب الردع الكافي، الذي كانت تتمتع به حتى وقت قريب. وهم يسابقون الزمن، من اجل تحقيق ولو بعض من الردع المأمول، بات الرأي العالمي يغلي من جراء الصور البشعة القادمة من غزة: صور الاطفال والنساء والشيوخ القتلى، صور الدور والمستشفيات المهدمة، صور الطوابير المصطفة للحصور على كسرة خبز أو شربة ما.

تدرك اسرائيل، ومعها الغرب وكثير من العرب، خطورة انتهاء الحرب على انتصار، ولو مفترض، لحماس. ومن هنا، تأتي صعوبة اتخاذ قرار الاعلان عن مجرد هدنة إنسانية. ان انتصار حماس، وضمنه انتصار محور المقاومة والممانعة، من شأنه ان يشكل إحباطا لمحور الاعتدال العربي المقابل ايضا. وعلى الرغم من تقدير زعماء هذا المحور لتكاليف الحرب الباهظة على غزة من جهة، ولتأثيراتها على علاقتهم بشعوبهم من جهة ثانية، مع الشعور المتعاظم بتجاوز الصهاينة كل الخطوط الحمراء، في خوض حربهم التطهيرية ضد الفلسطينيين، في القطاع والضفة على حد سواء، فإن انطواء الحرب على انتصار المحور الآخر يشكل ضربةً قوية لاستراتيجيتهم السياسية في المنطقة (اتفاقيات أبراهام، التحالف ضد إيران، القضاء على الميليشيات المسلحة، إلخ).

في الجهة الأخرى، يدرك محور المقاومة، وفي طليعته إيران، صعوبة التحدي، بعد أحداث السابع من أكتوبر. كما صرح بذلك السيد نصر الله، في خروجه يوم أمس، لم يكن احد يعلم بما كانت تدبره كتائب القسام لمستوطني غلاف غزة وحاميتهم العسكرية. ولأن النجاح كان غير مسبوق في اقتحام الغلاف، فقد تراءى ان التفاعل معه لم يكن بالقدر الإيجابي المطلوب من قبل البعض، أي ممن كانوا يتوقعون انخراط حزب الله في الحرب، عملا بمبدأ ما يسمى “وحدة الساحات”. مشاغلة جيش الدفاع الإسرائيلي في الشمال، عبر تبادل بعض نوبات القصف الموضعي، هي أقصى ما يمكن ان يقدم عليه “الحزب” في الوقت الراهن، لأسباب لها علاقة بالانقسام اللبناني الداخلي من جهة، وبالاستنفار العسكري الأمريكي- الأوروبي شرق المتوسط، استعدادا للتدخل في حال اتسعت رقعة المجابهة خارج القطاع، من جهة ثانية.

إلى أي مدى تستطيع كتائب القسام صد الاقتحام البري الإسرائيلي، في انتظار ان يطرأ جديد على الموقف الأمريكي- الأوروبي من إيقاف الحرب على غزة؟ وإلى أي حد تستطيع اسرائيل تحمل تكلفة الحرب العالية، من أرواح جنودها ومن خسائر اقتصادها؟

ان البحث عن نقطة وسط، بين استرجاع نسبة من منسوب ردع اسرائيلي مفقود في المنطقة، على أمل استتباب وضع أمني خلال مدة معقولة من الزمن، وبين محاذرة انهيار سلطة حماس بالقطاع كليا، هي “الخيط” المبحوث عنه الآن، من قبل جميع الافرقاء المتصارعين، اليوم.

كيفما كانت النتيجة من الحرب على غزة، فإن الحقيقة البادية للعيان هي ان “طوفان الأقصى” أعاد ترتيب أوراق المنطقة من جديد: فمن جهة، تأكد لجميع الأطراف استحالة القفز على الحقوق الفلسطينية، عبر الانخراط في مسارات اتفاقيات التطبيع، أو ما شابه من تواطؤات صفقة القرن. ايجاد حل عادل ومقبول للقضية الفلسطينية، بات هو الموقف السائد لدى معظم أطراف التحالف الصهيو- أمريكي، باعتبار ذلك الحل المدخل الطبيعي والمستدام لأي سلام بالمنطقة. ومن جهة ثانية، تأكد للصهاينة وحكومتهم بالتحديد، ان حدود القوة العسكرية، مهما بلغت درجات عتوها، لا يمكن لها ان تلتف على تطلعات الفلسطينيين في العيش داخل دولة مستقلة، عاصمتها القدس الشريف. حكومة اسرائيل المتطرفة الحالية، التي لم يسبق لها مثيل في الإحساس المتعاظم بالقوة، إلى حد إلغاء فكرة “حلم الدولتين”، ستنتهي يوم تتوقف الحرب، وتبدأ محاكمة المجرم نتانياهو على اربع قضايا: ارتكاب جرائم الفساد المالي، إحداث الانقسام الداخلي بين الإسرائيليين، الفشل في توقع حدوث طوفان الأقصى، العجز عن اقتحام غزة عبر الحرب البرية.