صدر للكاتب و الصحفي عبد الحميد جماهري مقال في صحيفة “قريش” التي تصدر في لندن، بعنوان “الضمير العالمي أمام سؤال… الضمير!”. و نظرا لأهمية المقال في فهم ما يحدث الٱن في غزة، نعيد نشره بالكامل.
أيهما نختار، إدانة من بدأ القتال؟
أم من جعله إجباريا؟
من أخطأ، وربما ارتكب خطيئة وهو يقاوم
أو من قام على الخطيئة الكبرى، بتشريد شعب واغتيال أفقه في الحرية؟
هذا النوع من الأسئلة، لا يقدم في الواقع مجسمات من دم ولحم وحياة، إنه نوع من الاجتهاد على قاعدة الدماء وأنهارها.
ولا يسمعه سوى الضمير الذي يسعى إلى وضع سلم للقيم يقوم بتوجيه السلام كما توجيه الحروب…
والسؤال ضروري في الحالة الفلسطينية الراهنة، الحالة التي يمنع فيها على الطفل أن يكون طفلا، بل عليه أن يكبر سريعا أمام البندقية وتحت القنابل المتسارعة إلى جسمه الغض…
وهو سؤال يريد جزء من الإعلام الغربي أو حتى بعض الإعلام العربي أن يجعل منه نوعا من التزكية الأخلاقية والتسويغ المعنوي للرد الإسرائيلي على هجوم حماس، باسم المقاومة في غزة وفي الأرض المحتلة، ومن صيغ ذلك أن نقول إن حماس بدأت، كما لو أن الفلسطينيين سئموا السلام، وتبرموا منه، وعنَّ لهم أن يجربوا حظهم مع الدمار، لعلهم يطردون الكآبة عن حياتهم المملة…
شخصيا أنا مقتنع بأن الطريق الوحيد للوصول إلى الحرية والسلام معا، هو السلام، كما هي السياسة، لكني في الوقت نفسه ألزم نفسي بالسؤال المضمر: ألم يكن السلام نفسه هو التهديد الذي يتربص بالفلسطيني، بعد أن فشل ثم بعد أن لم يوقف آلة القتل ثم بعد أن دفعت إسرائيل خصومها إلى اليأس ضدا على كل ما يقضيه تكتيك السياسة واستراتيجية الأخلاق؟
كان السلام الطريقة المعترف بها دوليا للسماح للضحية بأن تستمر في موتها المتجدد والبطيء، والسماح للمحتل بأن يستمر في تدبير ذلك بعيدا عن المواجهة الحارقة…
السلام عندما يتحول إلى تسلط استيطاني يقلب المعادلة، كان على إسرائيل أن تنتبه إلى أن تعايشها مع جنونها المتمثل في الاستيطان هو بداية توفير الشروط المشروعة للرد عليها، وأنها وضعت الرصاصة الأولى في كلاشينكوف الفلسطيني الذي يئس من الاغتيال وابتعاد الأفق الواضح لمصيره…
والضمير العالمي الذي نسائله، ويسائلنا أيضا إذا خسرنا مساحات فيه، بلغة إدوار سعيد ، فإننا نخسر أيضا وسائل للصراع معه.
نشاهد اليوم صور المدنيين كيف تؤثر في الضمير الدولي، جزئيا أو كليا، بشكل صادق أو بشكل انتهازي، ونسأل كيف سمحنا لأنفسنا بأن نصور ما يجعل العالم الغربي، الذي كسبنا فيه جزءا من الرأي العام ….يجزع منا، ويتذكر أن بعض المشاهد تمثل استرجاعا للتوحش الأكبر الذي مارسته قطاعات من التطرف الداعشي، وإن كان الفلسطينيون يعرفون بأن التشبه بهؤلاء هو نهاية القضية ولن يسمحوا به…
يقول الضمير العربي الإسلامي والمحب للسلام إن الذي بدأ منذ 56 سنة بالتهجير والاستيلاء على أراضي الغير، خارج قرار الدولتين على قاعدة حدود 67، كان هو الذي قرر طبيعة الصراع الدموي، وهذا حق وثابت، والفصول التي تأتي من بعد تزكي ذلك.
في كل جيل يتجدد السؤال ويتجدد القتل ويتجدد «المستشهرون» بالحق الفلسطيني، مر الوطنيون والقوميون واليساريون والاشتراكيون العرب والإسلاميون والعسكر والأنظمة المتعددة الرايات، وربما جاء الدور على «شيطان» المرحلة إيران، وما زال الفلسطيني يجدد موته ويجدد معه حبه للسلام الذي صار عبئا عليه قبل العالم الذي لم يعد يصدق ذلك، لنفتح القوس في قضية إيران، ربما من حقك إذا كنت تملك الحق في حالة الدفاع عن شعب الحق أن تتحالف حتى مع الشياطين كما نقول، لكن عليك ألا تنسى أن تظل أنت الملاك، لا تصبح الشيطان نفسه.
لا تصبحْ عدوك أبدا وتلك أحسن الطرق لهزيمته.
نسلم بأن الإبادة ليست ردا طبيعيا، ولا التقتيل الجماعي عنصر توازن في تراجيديا الشرق الأوسط، كما أن النزوع إلـى الرعب المتوحش ليس نيشانا على صدر المقاومة ولا طريقة في الفتك بالعدو؟
ختاما:
قطعت إسرائيل الماء والكهرباء
وأطلقت صنابير الدم والرصاص
الموتى لا يحتاجون الكهرباء
نورهم يقودهم في الظلام الموالي لسقوط القذيفة
الموتى يحتاجون الماء ليغتسلوا ثم يرتقون
الأحياء على العكس،
يحتاجون الكهرباء
كي يغسلوا الموتى وينامون بلا نور…
مثل ضمير العالم…