صدر للكاتب و الصحفي عبد الحميد جماهري مقال في موقع “العربي الجديد” بعنوان “المغرب: صوت المرأة ثورة”. و نظرا لأهمية المقال في فهم دعوة العاهل المغربي، محمد السادس، إلى استئناف الثورة الإصلاحية المتعلقة بالوضع الاعتباري للمرأة المغربية، نعيد نشره بالكامل.
في لحظة من لحظات التحوّل، تكون الثورة تطبيقا متجدّدا للتعريف الذي منحها إياه الشاعر الفرنسي، فكتور هوغو، أي “بما هي ضوء كبير من أجل عدالة أكبر“، وهو ما يعني تنشيط دورة الإصلاح أكثر، ما يعني الذهاب باتجاه قلب العالم رأسا على عقب، وهذا الصدى هو ما يجعل العاهل المغربي، محمد السادس، يدعو إلى استئناف الثورة الإصلاحية المتعلقة بالوضع الاعتباري للمرأة المغربية بعد فصلها الأول سنة 2004، وهو الأول من الثورة الخاصة بإصلاح مدوّنة الأحوال الشخصية، التي أصبحت تسمّى منذ ذلك العام مدوّنة الأسرة، ولتاريخ خاص به، وحرّك النقاش السياسي في المغرب، وملأ الفضاء العمومي، ونشّط التمايز الإيديولوجي بين دعاة الحداثة والتحديث ودعاة المحافظة والتقليد.
ويمكن اعتبار عرض “خطّة إدماج المرأة في التنمية” التي اقترحتها حكومة التناوب اليسارية في بداية الألفية الثالثة، وأشرفت عليها كتابة الدولة المكلفة بالرعاية الاجتماعية والأسرة والطفولة، بمساهمة من البنك الدولي، وبمشاركة المنظمّات النسائية والحقوقية (اعتبار هذه الخطّة) نقطة تنوير، سرَّعت بهذا التمايز، خصوصا وأنها قد جوبهت بموجة عمقٍ مجتمعيةٍ رافضة، وحدت تيارات الإسلام السياسي، (جماعة العدل والإحسان العاملة خارج الشرعية القانونية، وحزب العدالة والتنمية، وفصائل الجهاديين المنتعشين وقتها والأكثر قدرة على التغلغل في الوسط الشعبي …)، وقطاعات رسمية واسعة، بدءا باللجنة العلمية التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ورابطة علماء المغرب بمختلف فروعها، وجمعية العلماء خرّيجي دار الحديث الحسنية، وجزء من المحافظين القرويين، وبورجوازية حضرية وطنية محافظة، وبعض أطراف من اليسار…القومي، تحت يافطة حماية الأسرة والدفاع عنها.
ونتج من هذا التشنّج انفصام في المجتمع، وشرخ بين الحداثيين والديمقراطيين والجمعيات النسوية ذات التوجّه الحداثي من جهة وكتلة مجتمعية متلاطمة المذاهب من جهة أخرى، كلتاهما نزلتا إلى الشارع، الأولى في العاصمة الإدارية الرباط والثانية في العاصمة الاقتصادية الدارالبيضاء، لطَقْسَنة الفضاء العمومي وتملُّكه رمزيا. وقتها اختار العاهل المغربي القيام بمهمّة التحكيم، باعتباره أميرا للمؤمنين وملك البلاد ورئيس دولتها وممثلها الأسمى، وإليه تعود المهمّة الدستورية بضمان حسن سير المؤسسات، فشكل، في أبريل/ نيسان 2001 اللجنة الملكية الاستشارية المكلفة بتعديل المدوّنة برئاسة الأمين العام للحكومة آنذاك، إدريس الضحاك، ثم امحمد بوستة الزعيم الوطني والأمين العام لحزب الاستقلال سابقا، خلفا لعلال الفاسي، رئيس أول لجنة للمهمة نفسها! وكانت لحظة الإعلان عن نتائج أعمال اللجنة متميزة كثيرا باعتبار أن العاهل المغربي اختار البرلمان يوم عاشر أكتوبر/ تشرين الأول 2003 للإعلان عن التعديلات الجوهرية التي مسّت المدوّنة.
كان هذا الانحياز الجريء والواضح للإصلاح في قضيةٍ تعدّ موضع تكثيف كل الاستفهامات والكوابح والتناقضات في الوجود الاجتماعي للمجتمعات الإسلامية خيارا مقداما. ويذكر كاتب هاته السطور ما قاله له أحد الفاعلين الكبار في السياسة المغربية عن خيار الملك، “لقد غامر الملك بعرشه في الانتصار للمرأة“. ولعلّ لا شي اعتباطيا في الاختيار الذي رست عليه إرادة رئيس الدولة، بل إنها المرّة الأولى في تاريخ المغرب الذي تُحال فيه مدوّنة تتعلق بالأسرة على البرلمان للمصادقة عليها، وهو تقديرٌ للنظام البرلماني، باعتباره أحد عناصر ممارسة الأمة سيادتها التي تعبّر عنها باختيار ممثليها.
ومنذ التعديل الأول هذا، الذي كرَّس المغرب نموذجا في تدبير ما بين العقيدة والحداثة من اتصال، جرت مياه كثيرة تحت الجسور في المجتمع والسياسة والعمران. وبعد عقدين، يُطلّ المغرب على طفرة جديدة في خريطة تقدّم المرأة من حيث وضعُها. ومن بين ما برز في الفترة الفاصلة بين الإصلاحين، هناك بالتأكيد التباطؤ في “تفعيل المؤسّسات الدستورية، المعنية بحقوق الأسرة والمرأة، وتحيين الآليات والتشريعات الوطنية، للنهوض بوضعيتها“، ثم القصور الحادّ في تطبيق بنود المدوّنة، سيما في ما له علاقة بالمقتضيات القانونية وتدقيقها، وتطبيق ما له علاقة بزواج القاصرات، والأحكام التقديرية الممنوحة للقضاة والتي تصرف فيها بعض منهم، بخلفيّته السوسيولوجية أو الفكرية، بعيدا عن روح الإصلاح، وهو أمر أثاره الملك محمد السادس في خطابه لعيد العرش 2022، بدون مواربة، كما نبّه إلى مخاطر العراقيل “لأسباب سوسيولوجية متعدّدة، لاسيما أن فئة من الموظفين ورجال العدالة، مازالوا يعتقدون أن هذه المدوّنة خاصة بالنساء“.
ومن المثير هنا أن القصور لا يمسّ المدوّنة الحالية، بل كاد يكون ثابتا اجتماعيا وإداريا ومؤسّساتيا منذ التعديل الأول، فقد تبيّن، بعد سنوات قليلة، أن المدونة الأولى التي ترأس لجنتها الزعيم الوطني الكبير، علال الفاسي، في سنة 1957، أي بعد الاستقلال بأشهر عديدة، تواجه عراقيل موضوعية وأخرى ذاتية تعيق التطبيق السليم. وهو ما تولدت عنه ضرورة إعادة النظر في تطبيق بنود المدوّنة، كما يظهر ذلك من خلال مذكّرة 1961التي حرّرها رؤساء المحاكم، وقتها وما استوجبه صدور قانون توحيد القضاء سنة 1965 (وهذان المشروعان الإصلاحيان الجزئيان لم يُكتب لهما النجاح). يضاف إلى ذلك الفشل الذي منيت به محاولتان للإصلاح أيام الحسن الثاني في 1974و1981بسبب غياب الإجماع الوطني، بيد أن ذلك لم يمنع العاهل الراحل من التجاوب مع مطالب النساء في تحريك ملف إصلاح المدوّنة، وعيَّن مستشاره عبد الهادي بوطالب رئيسا للجنة التي قدّمت الإصلاح في عهده.
وقد ظلت السِّمة الأساسية الثابتة، كمٍّا ونوعا، قدرة المغربيات على المشاركة الحاسمة في كل مناحي الحياة الوطنية من السياسة إلى الرياضة مرورا بالعلوم والاقتصاد والإبداع وخلق الثروة والحضور الدولي، مقابل قصورٍ في النص يشلّ حركية المجتمع ككل. وعليه، أثبتن قدرتهن على رفع راية الإصلاح الخاصة بنضالهن النسائي. وتتجلّى الخلاصة الثانية في تجاوب المؤسسة الملكية في المغرب مع مطالب الحركة النسائية الإصلاحية، ثم تشابه العراقيل والقوى الساعية إلى تحجيم آثار الإصلاح في الحياة العامة لأسباب يطول شرحها ربما. ومع مجيء محمد السادس، اكتسبت القضية الإصلاحية بعدا أكبر، حيث يمكن القول إنه “بيَّأَ” مفهوم الإصلاح في التربة الوطنية، وجعله ثابتا في تسيير قضايا الدولة والمجتمع، ضمن إدارة كل الانتقالات السياسة واللغوية والمجالية والحقوقية. إلخ..
في السياق العام حاليا، يمكن أن ننتبه إلى ما يحدث في المغرب، باعتباره مختبرا حضاريا يهمّ المسلمين جميعا، باعتبار المشترك الديني في هذا الجانب، كما أنه يؤشّر إلى قدرة العقل الإسلامي، إذا صحّ التعبير، على الاجتهاد من زاوية الإصلاح العميق من داخل المنظومة العقائدية نفسها، مع التزام سقف التديّن (لا أحلّ ما حرّم الله ولا أحرّم ما أحلّ الله، كما قال محمد السادس). وبهذا المعنى، يكون الاجتهاد في إصلاح الوضع الاعتباري للمرأة مدخلا إجباريا لإصلاح الفقه في جانب العلاقة البيْنية. ولا يتعدّى ذلك إلى الكفر الشامل به، بل اعتباره “جهاز تفكير“، يعود إلى قرون مضت، يجب تحيينه (تكييفه زمنيا)، لأنه ما زال يحتفظ “بجزء حي يمكن الاستفادة منه” كما قال مالك شبال. وتجريم الشطط في استعمال الفتوى التي تركز على ثوابت غير الثوابت الجامعة.
وما أثار الانتباه في قرار ملك المغرب، المعلن أخيرا، رسالته الموجهة إلى رئيس الحكومة، بخصوص التعديل الجديد، والإشراف عليه من خلال لجنة ثلاثية مكوّنة من رئيس النيابة العامة ورئيس السلطة القضائية ووزير العدل. تضاف إليهم في دائرة ثالثة الوزارات والهيئات المعنية بالحقوق والتضامن والأسرة والمجتمع المدني. وبالنسبة لرئيس الحكومة، يمكن اعتبار تكليفه بهذا الإشراف استمرارا مؤسّساتيا، لمصادقة البرلمان على المدوّنة المعدّلة في سنة 2004، ورمزيا تقوية القوانين والتشريعات الوطنية، من مدخل المؤسسة البرلمانية المكلفة بالتشريع حصريا في الدستور والتي يمثلها عبر الأغلبية. كما يمكن أن ننتبه إلى قدرة القوى المحافظة على التعبئة اليوم، فما اشتُهر إلى حد الساعة بمجرّد الإعلان هو الضغط “مجهول المصدر” عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل التعبئة المدنية فقط، في حين غابت القوى ذات الحساسية الدينية، والتي بدت أساسية في المشهد السياسي سابقا: أولا، بتأثير الوهن الذي أنهكها بفعل تسيير حكومي عقدا، كشف محدودية سقفها المعنوي في الزهد الديني، ثم الفشل في التعبئة الداخلية وبروز الخلافات وسطها وتغيّرنموذج التعبئة هاته، وتحول التعبئة إلى المعارضة الافتراضية، المحدودة بطبيعتها.
الخطأ في تكفير المجتمع لتفسير الزلزال الذي ضرب، أخيرا، منطقة الحوز (وسط) في المغرب، باعتباره عقابا من الله سبحانه وتعالى، ذكّر المغاربة بالتكفير الذي سبق الضربات الإرهابية في 2003 قبيل الإعلان عن الإصلاح الكبير في المدونة.. ولعل “تفجير” (من الفجور) المجتمع أعاد لحظة الضعف الذي أصاب حركات الإسلام السياسي، والتي رافقت “تفجير” الأماكن العمومية والفنادق، مخلفة أزيد من 40 قتيلا في الدار البيضاء.
ختاما، من المجدي أن يتم الإصلاح بنَفَس ثوريٍّ كسياسة إرادوية لسدّ ثغرات الخصاص الكبير ضد المرأة، والإنصات إلى صوتها، الذي هو صوت المجتمع صوت الأسرة كلها، صوت الثورة عندما تختار نبرة دافئة!