ليس هناك من سحر يفوق سحر كرة القدم. السحر البالغ، لهذا البالون الهوائيّ، يمكن قياس درجته بالقدرة على التحشيد الجماهيري، حيث الأنظار لا تكف عن تعقبه، وهو يتنقل بين الأقدام، او يتطاير فوق الهامات. بقدر ما يصنع الفرحة، يصنع، بالمقابل، الخيبة والاحباط. مع الكرة، وبتاثير من السحر الذي تنفثه حواليها، بمستطاع المرء ان ينسى همومه الشخصية، وضعه الاجتماعي الهش، وحتى حالته الصحية الصعبة، في غير قليل من الاحيان.
تكون الكرة بمثابة المخدر القوي، بالنظر إلى ما لها من قدرة على إحداث الالتفاف الشعبي، ومن ثم اذكاء الروح الوطنية. هل تكون الكرة عاملا سلبيا، حين يختار المواطن تجاهل بعض همومه الاجتماعية، ولو إلى حين؟
في سياق الإجابة عن هذا السؤال، يمكن استحضار رمزية “الحديد”في قوله تعالى:”فيه بأس شديد ومنافع للناس”. كذلك، تكون الكرة بمثابة “الحديد”، من حيث التعارض في استعمالها، في مواقف الايجاب كما في مواقف السلب. الحالة المثالية لاستثمار اللعبة، هو ان يكون الاهتمام بتجويدها رديفا للاهتمام بتجويد مرافق اخرى، في التعليم، والصحة، والعمل، وطرق المواصلات (الخ).
ولعل النظر الى الكرة، والرياضة بصفة عامة، في إطار الاهتمام الكلي برفاهية المواطن، هو ما يمكن لمس تجسيده، في صورته المثالية، لدى الغرب الديمقراطي تحديدا. لا يستقيم إعلاء الشأن الكروي، في حال كان هناك اختلال فاضح في مرافق اخرى، على مستوى تدبير الشان العام. هذا حال بعض وجهات النظر، بما ظلت تطالعنا به، كلما التفت الجماهير حول الكرة، تعبيرا عن البهجة الجماعية، والروح الوطنية (وحتى القومية في احيان اخرى).
ومع ما لوجهات النظر هاته من صوابية، الا ان النجاح في الكرة، ممثلا في نجاح المنتخب الوطني في التاهل، لا ينبغي ان يذهب إلى حد تبخيس قيمة هذا النجاح، وبالتالي تعكير صفو البهجة الكروية الشعبية. من حق الناس ان تفرح، وتصنع الفرحة، وحتى في سياق ظروف اجتماعية صعبة. الرأي عندي، والذي اخذ به، هو ان تواضع مستوى الحياة الاجتماعية، لا ينبغي ان يكون حائلا، دون النجاح في الكرة مثلا. بالامكان قراءة نجاح “الكرة”، على الاقل، في سياق التعبئة العامة، لتحقيق نجاحات اخرى، عبر الإيمان بسيرورة النضال، وقدرتها على تحقيق النجاحات المختلفة، وفي القطاعات المتنوعة.
لطالما وظفت الكرة، والرياضة بصفة عامة، من قبل الأنظمة التوليتارية والاستبدادية، كما كان الحال عليه بدول المعسكر الشرقي، في التعبئة السياسية. وأعتقد ان الامر سيظل كذلك، لدى بعض تلك الانظمة، التي لن ترى في الكرة الا مجرد “لعبة”، من اجل الالتفاف على الانقسامات، والاحتجاجات المطلبية. ولكن، ومع ذلك، ليس بوسعنا الا نترك المستديرة تتهادى بين الأقدام والرؤوس، وبالموازاة تتهادى معها قلوب العشاق وافئدتهم. انها بمثابة الفن، الذي لا يجوز حرمان احد من استهلاكه، بدعوى “خلل” ما في وضعه الاجتماعي.
سياق كتابة هذه المقالة، ما قرأته من آراء “قديمة” مستعادة، على مواقع التواصل الاجتماعي، لمفكر “المستقبليات”، الأستاذ المهدي المنجرة، حول التأثير السلبي لكرة القدم، في مجتمع مثل مجتمعنا. وعلى غرار رأيه، تقريبا، جاءت مقالة الإعلامية فاطمة الافريقي، التي انتشرت على المواقع ذاتها. ومن رأيي، ان نترك الناس وشانهم، يفرحون ويحتفلون، دون تانيب ضمير، على قاعدة ان: لكل مقال مقام. النجاح في التأهل إلى ثمن النهائي، في كأس العالم الجارية بدولة قطر، ليس من شأنه ان يحول بتاتا، دون التأهل الى مستويات اخرى، في مجالات التقدم، الرفاهية والعيش الكريم.