اسمه محمد ملوك، الا ان سكان الحي يدعونه “با بلغالي”. رجل من المغرب العميق، كما يحلو للبعض وصف أمثاله، من مغربنا الجميل والقاسي. في منتصف السبيعينيات، مازال يفيض با بلغالي حيوية ونشاطا ومرحا. خرج الى العمل صغيرا، لاعالة والديه واخوته وأطفاله من بعد، وان حظي بنصيب من التعليم، حتى نهاية المرحلة الإبتدائية. فضلا عن سعيه الى تحصيل “طرف ديال الخبز”، فقد اخرجته الى “الدنيا”، في سعة عرضها، متع الحياة بمختلف الوانها.
لم يترك با بلغالي مجالا، لم يشتغل فيه: راعي غنم، فلاح، صانع فحم خشبي، حصاد، عامل بناء، بائع متجول، حارس ليلي، بستاني، الخ. تعدد المجالات، التي احترف العمل فيها، دفعته الى ان يجوب المغرب، في مختلف قراه ومداشره ومدنه. لذلك، ظل الحديث، يجري على لسانه، مشبعا بالحكمة والتصوف، بحضرة زواره ورفاقه ومخالطيه.
با بلغالي يشتغل، اليوم، حفار قبور. انه الوحيد، في جماعته الترابية، الذي يفهم في سعة القبور، وقبلتها، وما الى ذلك. الرجل، الذي لم يانف من دفن الموتى، يوما، كان يمني النفس بالاعتراف بخدماته، عبر تخصيص أجر له من ميزانية الجماعة. وحين اقترب الاعتراف، اعترض احدهم على ذلك، بدعوى ان الرجل حفر قبور جميع موتى الجماعة، وكأنه هو من قبض ارواحهم.. يا للمفارقة، في اخر لحظة، يظهر احد “ابطال” الحمق والسخافة..
كلما انتهى الى سمعه، ان احدا توفاه الله الى رحمته، كان يستخرج أدواته ولوازمه، استعدادا لحفر القبر. في سياق ذلك، كنت اجده نشيطا، تتبعه حركة وجلبة، الى درجة ممازحته بقرب حصوله على مبلغ حفر القبر. با بلغالي، توطدت علاقتي الشخصية به، لان فيها تجلت الحياة عميقة: في زوالها وابديتها، في حزنها وفرحها، في ثقلها وطربها.
با بلغالي يعيش دراما الموت، في حله وترحاله، عبر حفر القبور ودفن الموتى. ومع ذلك، لا تكاد تفارقه البهجة والحكمة، والسعي الى تحصيل الملذات. شخصيا، لم اخالط رجلا، اجتمعت فيه المصالحة بين الحياة والموت. فترة الحجر، بفعل انتشار وباء كوفيد، خلال سنتين كاملتين، منحتني فرصة ان اقترب من شخص نادر.. بعيداً عن سلبيات عدد من مثقفينا ونفاقهم.
حين تطيب المودة بيننا، كنت أدعو با بلغالي، على سبيل المزاح، الى ان يؤثرني بحفرة واسعة وعميقة..
ترى، هل اسبقه اليها، ويكون لي ما طلبت؟