الشاعر كائن هش وتتدفق روحه توددا لذلك الجمال الذي لا يراه أحد سواه. الشعراء يتبعهم الغاوون، وهاهو الآن يعيش لوحده على مرأى هذا العالم الذي يضحك بملئ شدقيه وهو يستمع للشاعر وهو يقرأ ترنيماته.
الشاعر عملة نادرة في زمن اختلط الحابل بالنابل. ولم يبقى إلا هؤلاء الذين يسودون الأوراق بالكلمات المتقاطعة.
لم يعد الشاعر قادرا على رأب هذا الصدع الذي أصاب العالم. لم تعد رجلاه تقويان على حمله كي يمشي في هاته الأرض ككلجامش بحثا عن الكلمات الخالدة. أينما ولى وجهه هاله الخراب الموحش والوجوه التي حفرت فيها قبور عمياء.
كيف له أن ينحث كلمات الحب في صحراء عارمة وشاسعة، تعوي فيها الذئاب الجائعة وتصرخ الريح المجنونة في أفيائها.
لم يعد الشاعر صوت الذين لا صوت لهم. حتى الأطلال لم تعد تستهويه كامرئ القيس كي يتغنى بهذا الماضي البعيد ويحتفل بالكلمات كراقصات جميلات أتين كي يلهبن حماس القلب ويعدن لنار الحياة أوج إشتعالها.
الشاعر شيخ هرم. يبيت في العراء. لا كساء له سوى أسمال مجد تلك الكلمات التي كان ينسجها كجسر للخلاص. كل العوالم التي بناها من حلمه أصابها الجدب وهجرتها أمواج البحر الهادر في أعماقه.
يمضي الشاعر ولا أحد يراه او يسمع صوت ندائه. يمضي وقد أوهن الهم كتفيه وخارت قواه…يبتسم بفم أشبه بكهف عميق ومعتم. يمد يديه لعميان الأرض، يتلمس وجوههم ويمسح عنهم أتربة الحرب التي طمرت ملامحهم ومحث أثر الإنسان في تضاريسهم.
تتعب روحه وهو يتأمل شرخ العالم وينصت لأنين هؤلاء الهائمين في أرض اليباب.
يقف الشاعر أمام بيت العالم الشاهق والمغلق. يداه معروقتان وخشب الباب خشن وصلب. يهز رأسه ولا يرى سقف هذا العالم الذي لا منفذ فيه للسماء.
يعود الشاعر دوما إلى عزلته ليغازل ماتبقى من سرب طيور كلماته التي فقدت أجنحتها وأصاب الرمد عيونها الجميلة. يجلس بقربها ليطمئن إلى أن هناك من ينتظره كلما عاد إلى مهجعه.
ينام الشاعر ويستيقظ العالم بكل جيوشه الرهيبة وكائناته البشعة، كي يقفل باب بيت الشاعر الكئيب ويدعو زوارا آخرين أشبه بالخفافيش كي يمصوا ماتبقى من دمه.
يأتي الصباح ولا يفقد الشاعر أثر العودة إلى هناك حيث الوعد الأول بالخلاص.
الشاعر لا يموت.