بقلم: عبد الدين حمروش
صار من تقاليد جامعاتنا العريقة، أن تتم استضافة أكاديمي مشهود له بالبحث المتميز، ليقدم محاضرة في موضوع معين. يراد لهذه المحاضرة أن تكون فاتحة “رسمية” للمحاضرات والدروس، مع بداية كل موسم جامعي جديد. غالبا ما تنظم الدروس/ المحاضرات الافتتاحية من قبل المؤسسة الجامعية، حتى تكون شاملة لجميع الشعب العلمية الموجودة، بالنظر إلى العنوان المختار (للدرس). ولذلك، كان من شروط الدروس الافتتاحية: شموليتها، إشكاليتها، راهنية موضوعها (يقارب قضية أو حدث له صلة بمجتمع، بأمة، إلخ).
في مقال لموريس بلانشو، بعنوان “الفكر وضرورة الانفصال” (في كتاب “أسئلة الكتابة”، ترجمة الأخوين بنعبد العالي)، ترد إشارة إلى درس افتتاحي في جامعة فريبورغ، كان قد قدمه هايدغر يومئذ، مقاربا سؤال: “ما هي الميتافيزيقا؟”. ومن الإشارة ذاتها، نفهم أن السؤال إنما طرح “عن جماعات الأساتذة والطلبة التي يخلقها التنظيم التقني للكليات”. مقال بلانشو جد مفيد، بما يقدمه من معطيات، ويطرحه من أسئلة. ليس هذا موضوعنا، ولا درس هايدغر، في تفاصيله. غير أن المهم في ما أشار إليه بلانشو، في ما له علاقة بدرس هايدجر الافتتاحي المذكور، هو ما ورد مرتبطا بما سماه “التنظيم التقني للكليات”.
اليوم، الدروس الافتتاحية غدت دروسا جامعية، بحصر المعنى والمراد. لذلك، باتت ضيقة، بما تتناوله من مواضيع تخصصية “في مجال معين”. الباحث المتخصص، إن لم يكن ذا خلفية فكرية شمولية، بها يقارب قضايا ذات راهنية تمس المجتمع (الوطن، الإقليم، الأمة، الإنسانية)، فإن ما يقدمه من دروس افتتاحية لا تعدو كونها دروسا بالمعنى المدرسي للكلمة (عرض سردي لمعارف، مفاهيم، إجراءات، مناهج، إلخ). غير أن هذا لا ينفي أن عددا من الدروس الجامعية تحولت من صفتها تلك (المدرسية)، نتيجة لموسوعية أصحابها، وحيوية تأملاتهم وأبحاثهم، إلى دروس رائدة غير مسبوقة، بما فتحته من آفاق معرفية هائلة (محاضرات دوسوسير في اللسانيات مثلا).
في عدد من عناوين الدروس الافتتاحية، التي يعلن عنها عبر وسائل الإعلام، لا تتجاوز بعدها المدرسي. ذلك أن “أصحاب الدروس الافتتاحية”، وقد لا يكونون أساتذة جامعات بالضرورة، حين يفتقدون للطبيعة الشمولية للمعرفة، والراهنية في علاقتها بالواقع، والربط بين الوقائع، عبر تملك القدرة على الانتقال والانتقاء والإسقاط، فإنهم يفتقدون، بالتبع، حيوية الدرس الافتتاحي.
هناك باحثون مؤهلون لتقديم الدروس الافتتاحية في جامعاتنا اليوم، وإن كان عددهم في تقلص مستمر، بفعل سيادة التكلس المعرفي (عبر الاجترار)، وانعدام الطرح الإشكالي، وفقدان الربط بين الوقائع، والظواهر، والقضايا، والمعارف. وإن كان الواقع مطروحا على الساحة الأكاديمية المغربية والعربية، إلا أننا لا ينبغي أن نتفاجأ من أن الواقع ذاته بات مطروحا على الأوساط الغربية، هي الأخرى.