عشق الكرسي بين السياسي والمثقف: غريزة أم استبداد؟

بقلم: زكية لعروسي

قال الجاحظ ذات يوم: “وإنما العشق اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه حب. وليس كل حب يسمى عشقاً، وإنما العشق اسم للفاضل عن ذلك المقدار.” كلمات تتردد في آذاننا لتذكّرنا بمفهوم العشق الأصيل: عشق الشرف أو المرأة كما في زمن عروة بن الزبير الذي قال: “والله إني لأعشق الشرف كما تعشق المرأة الحسناء.” ولكن، يا جاحظنا العظيم، يبدو أن عشق اليوم قد انحرف عن مساره النبيل. لم يعد عشقاً للشرف أو للإنسانية؛ بل أصبح ولعاً محموماً للكرسي والسلطة.

تأملت في هذا العشق الحديث قارئي، فوجدته أشد رسوخاً في النفوس من عشق العاشق لمعشوقته. إنه عشق لا تقهره السنون، ولا تضعفه الأمراض، ولا تعيقه الحواجز. المثقف الذي طالما حارب الكراسي وانتقد استبدادها، أصبح أسيراً لهذا العشق بمجرد أن تلامس قدماه عرش السلطة “كتخرجو من الباب يرجع من النافذة”. الكرسي اليوم لم يعد مجرد أداة للحكم، بل تحول إلى كيان مقدس يُبذل في سبيله كل التضحيات

عشاق يا جاحظنا لا يكتفون بامتلاك الكرسي، بل يولعون بكل تفاصيله: بعطره، ولونه، وحتى صيانته وتزيينه. أصبح الكرسي أشبه بمعشوق أبدي لا يفارق خيالهم، حتى لو تقوّس ظهرهم، وضعفت قوتهم، يبقى ولاؤهم الأول للكرسي. فهل يمكن أن يكون عشق الكرسي ظاهرة القرن الواحد والعشرين، ام هو غريزة في النفس البشرية؟ يبدو أن حب السلطة مغروس في أعماق الإنسان، يتجلى بأشكال مختلفة: من الحاكم الذي يتمسك بكرسيه حتى الرمق الأخير، إلى المثقف الذي يتحول إلى مدافع شرس عن مصالحه بمجرد أن يحظى بمقعد في دائرة القرار.

لكن سأقول لك سرا يا قارئي، ليس هذا العشق وليد العصر الحديث، بل يمتد جذوره إلى أعماق التاريخ. منذ نشوء الملكيات والأنظمة السياسية الأولى، كان الكرسي رمزاً للسلطة والنفوذ. تأمل في قصص الحكام الذين قضوا حياتهم في صراعات دامية للحفاظ على عروشهم، مثل الحروب الأهلية في عهد هنري السابع في إنجلترا، أو انقلاب الحلفاء ضد نابليون الذي لم يتخلَّ عن حلم إمبراطوريته حتى في منفاه، وفي التاريخ العربي، لا يمكننا نسيان مأساة الحسين بن علي الذي ضحى بحياته رفضاً لكرسي باطل، في مقابل أمويين تشبثوا به مهما كان الثمن.

كنت أعلم منذ أصبحت واعية إلى قدر ما أن كراسي السياسة كانت دائما تحت الحصار، لكن ما الذي حدث للأدب؟ هل تحول من فضاء حرّ للخيال والتجديد إلى مائدة عائلية محصورة على نخبة تُحكم قبضتها على مفاتيحها؟ يبدو أن الكرسي، هذا الكيان الذي كان يوماً رمزاً لتبادل الأفكار وإثراء الثقافة، أصبح معقلاً لمصالح شخصية ضيقة تُحاصر أي محاولة للتجديد. نحن بحضرة زمن الكراسي المتصلبة، تحول الادب إلى مأدبة عائلية. يتم دعوة الأقرباء الفكريين، أولئك الذين يملكون ذات اللغة، ذات القيم، وذات التوقيع. أصبح المجلس الأدبي أشبه بدائرة مغلقة، حيث تُطوى دعوات النقاش تحت طاولة الولاء، ويُمنع التفكير بنسيم جديد.

لم يعد الحديث عن الكفاءة أو الإبداع معياراً يُناقش في مجالس الأدب اليوم ، بل عن الولاء للمجلس وأعضائه. “المثقف الحديث” صنع أدوات جديدة للدفاع عن مصالحه، أدوات لغتها الرسمية هي الإقصاء، وأدواتها العملية هي إحاطة نفسه بمن ينافقونه ويخدمونه، لا بمن يهددون راحته أو “يغمسون خبزهم في مرقه”. دار الشعر او التدب أصبحت “داره” و المنابر “أملاكه الخاصة”. أما القادمون الجدد، من أصحاب الكفاءة والجرأة، فمكانهم خلف الأبواب المغلقة، يُطردون بحجة أنهم “برانيين” ولا يليقون بالمشهد المحكم.

تداخلٌ مريب ببن المادبة والادب، وليس الأمر مجرد صدفة. فهؤلاء الذين يحتلون الكراسي يعرفون أن دخول شخص جديد قد “يخلخل” التوازن. قد يطرح سؤالاً، أو يكشف عيباً، أو حتى يُثبت أن الأدب أكبر من أن يُحتكر بأيدي مجموعة واحدة. لهذا، يصبح الحفاظ على الكرسي أهم من قضية الأدب ذاته. زمن أصبح الأدب حارساً للكرسي، إذ في الماضي، كان الأدب هو العدو الأول للسلطة الاستبدادية، ولكنه اليوم أصبح جزءاً من آلة استبدادية مصغرة. الكرسي لم يعد وسيلة لخدمة الأدب، بل الأدب هو الذي أصبح في خدمة الكرسي. نرى ذلك في الأسماء التي تتكرر في المهرجانات والندوات، في النصوص التي تُطبع وتوزع لأنها تنال رضا “المجلس”، وفي الأسماء التي تُقصى لأنها لا تملك “كارت الولاء”.

هؤلاء المثقفون الجدد ليسوا سوى نسخ محسّنة من السياسيين المتشبثين بكراسيهم. الفرق الوحيد أن لغتهم ليست الخطاب السياسي، بل لغة الأدب التي أصبحت أداة لتجميل قبضة السلطة الثقافية.

حاكني يا قلمي: هل سيستمر الأدب هكذا. كراسي متصلبة، وأقلام متواطئة، وأفكار تُقتل قبل أن تولد. الحل ليس في إزالة الكراسي، بل في كسر هذه الحلقة المفرغة التي تحصر الإبداع واللغة في جيوب صغيرة. الأدب الحقيقي يزدهر عندما يكون للجميع، عندما يُسمح لمن يملك الجرأة أن “يغمس خبزه في المرق”، وعندما تكون الكفاءة لا الولاء هي معيار الجلوس على الكرسي. هذا المشهد المثير للجدل ليس قدراً محتوماً، ولكنه يتطلب جرأة من “البراني”، واستعداداً للمواجهة من داخل المجلس نفسه. فهل سنشهد يوماً يُعاد فيه للأدب روحه الحقيقية، أم أن الكرسي سيظل سيد الموقف؟

يبدو أن الكرسي أكثر من مجرد أثاث؛ إنه رمز يعكس ضعف الإنسان أمام إغراء القوة، وشغفه الأزلي بالبقاء في مركز النفوذ. إنه عشق، لكنه عشقٌ من نوعٍ آخر: عشقٌ يفسد الروح، ويضعف الأخلاق، ولكنه مع ذلك يظل متجذراً في النفوس.