بقلم: عبد الدين حمروش
كان السجال السياسي مجسدا، إلى حين قريب، بين فريقين: السلطة وتكنوقراطيوها من جهة أولى، وأحزاب الحركة الوطنية ومثقفوها من جهة ثانية. في البداية، من الموضوعي الإقرار بأن في التوزيع اختزالا تبسيطيا، إلا أن من الممكن الاعتماد عليه، من منطلق كونه إجراء بدئيا. عاش المغاربة على واقع هذا التقاطب، بوتائر متفاوتة، منذ سنوات الاستقلال الأولى، إلى أن تم تشكيل ما سمي، في حينه، حكومة التناوب. كانت هناك مبادرات لخرق هذا التقاطب، عبر استدراج الدولة لهذا الحزب “الوطني”، أو استدراجها لأحد أطره، على أساس المشاركة في حكومة من الحكومات، أو إدراجه ضمن هيئة من الهيئات.
كانت جهة السلطة المخزنية معروفة، برجالاتها، وطبيعة تفكيرهم، وأهدافهم. التماسك في البنية، والعمل وفق “كتلة”، كانا يضمنان لهذه الجهة قوتها، واستمراريتها. في “خرجتين” عسكريتين كبيرتين، تجسدت محاولات اختراق وحدة هذه الجهة. ما عدا ذلك، استمرت السلطة قوية، بثقافتها المغرقة في التقاليد المخزنية، وبأطرها الإدارية الفريدة، وبرجال أعمالها.
في الجهة المقابلة، كانت المعارضة “التقدمية” متقاربة في خلفياتها الايديولوجية، وبرامجها السياسية، وطبيعة خطاباتها.. لولا أنها كانت متضاربة في أجنحتها التنظيمية، بين الاعتدال والراديكالية. غير أن الذي ينبغي الإشارة إليه، هو أن الجهة المقابلة، بالنسبة إليها، كانت واحدة. ولكن، ما إن حصل توافق/ تناوب، حتى اعترى الجهة الثانية اهتزاز في حقيقة تماسك أجنحتها تلك، في ما خص نوعية الخطاب، وطبيعة التحالف، وأسئلة المرحلة. وفي سياق هذا التحول، كان من الطبيعي أن نجد من يقول إن لا مجال لاستعادة التقاطب القديم، مادامت هناك بوادر “انتقال ديمقراطي” جارية. إذا لم يتحقق، ولو الجزء البسيط منه، فبالمقابل ليس بالإمكان العودة بالحديث إلى ما قبل “التناوب الحكومي”. ومن هنا، اتهم من بات يحافظ على خطابه القديم بالقصور عن مسايرة المتغيرات، الحاصلة في بنية المجتمع، على أكثر من صعيد.
هل تغيرت السلطة، أو ما يسمى المخزن؟ على أي مستوى: في الشكل أم في المضمون؟ ما هي درجة هذا التغيير؟ هل هناك مؤشرات على أن هناك انتقالا ديمقراطيا بات ممكنا، ولو على المدى الزمني المتوسط؟ أسئلة، يتناسل بعضها من بعض. والجواب عنها لن يكون سهلا، بحكم طابعها الإشكالي والتركيبي. وكل ما يمكن أن يساق، يجدر تجميعه، وضم بعضه إلى بعض، في محاولة للخروج بقراءة تقريبية للواقع السياسي الراهن. غير أن سؤالا يطرح نفسه بحدة: إذا كان النقاش منصبا على الدولة، في حلتها الجديدة، أي المنتسجة من الأطر المخزنية التقليدية والأطر الوطنية “التقدمية”، وما جاءت تضطلع به من مهام، في تدبير الشأن العام، فيمكن المبادرة به، والخروج بحصائل ملموسة، على هذا الصعيد. غير أن هذا، ولنكن واضحين، سينطوي على واقعية استبعاد “السياسي” من دائرة النظر، مصداقا لما صير إليه، بالإحالة إلى “موت السياسة”. وبالتبعية، لم يعد من المفيد الحديث عن الأحزاب السياسية. كل ما هنالك، يوجد أطر يتنافسون في ما بينهم، على أمل أن يحظوا بتولي بعض الوظائف الإدارية، حتى وهم منخرطون في أحزاب، أو يتحركون ضمن فرق برلمانية. وبناء عليه، أمست الاستحقاقات الانتخابية، دورة بعد أخرى، ترسف في مأزق اللامبالاة الشعبية. باستثناء طابعها الشكلي، لم يعد للانتخابات من دور دال، في ما يتعلق بفهم الخريطة السياسية، وأسئلتها، وتقاطباتها.
بالنسبة إلى البعض، كان يمكن لما سمي “التناوب” أن يدشن عهدا جديدا لتحقيق الانتقال الديمقراطي، وبالتالي عهدا واعدا لتجديد العرض السياسي. غير أن “المصالحة” السياسية، من حيث ما أدت إليه من نتائج، ومن حيث ما لم يكن بالإمكان تأميله حينها، ستؤدي إلى إفلاس الممارسة السياسة، وفي إثرها الظاهرة الحزبية. باستثناءات حزبية قليلة، تحاول جاهدة إعادة بناء الاستقطاب القديم، لم يعد يحتل المشهد السياسي العام إلا الخطاب السياسي الواحد من حيث المضمون، والأحادي من حيث زاوية النظر. ولذلك، أضحى اضمحلال معظم النخب السياسية النقدية واقعا ملموسا؟ أين هم الآن؟ أو بالأحرى أين هي فاعلياتهم في ما يجري حاليا؟ بالنسبة إلى فريق، فقد استنفذ جهوده في تدبير الشأن العام، وثان تحول إلى تسيير جمعيات مدنية، وثالث آل إلى الصمت، بعد أن رفض مسايرة الاندماج السياسي الحاصل، ورابع انخرط في دينامية “التفريخ” الحزبي (إلخ).
في خلاصة، يمكن القول إننا في مرحلة: إفلاس السياسة، وانقراض المعارضة. ولذلك، من المنطقي أن يوجد من “الحكماء” من بدأ يدق أكثر من ناقوس، من منطلق ما بدا يشكله “الفراغان”، الآخذان في التوسع والحدة، من أخطار غير محسوبة العواقب، في ظل متغيرات إقليمية ودولية عاصفة. هل مازالت هناك حاجة إلى السياسة؟ إلى ممارستها؟ نعم، مازالت هناك حاجة، وستظل كذلك. ولكن، أية سياسة؟