«اللسان ما فيه عظم» في حضور الشاعر والسياسي

بقلم: زكية لعروسي

يُعَدُّ اللسان وسيلة أساسية للمثقف والإنسان العادي على حد سواء، لكونه الوسيلة الدبلوماسية “غير الرسمية” التي يلجأ إليها الناس في غياب الوسائل الرسمية للتعبير. فهو يقوم بدور مركزي في إيصال صوت المضطهدين، ونقل معاناتهم، وبناء وعي جمعي يدعم قضاياهم.

أمثالنا الشعبية بالمغرب تعكس ان اللسان سلاحً قويًّ، له القدرة على قول كل شيء بحرية، دون أن يُكسَر أو يُقمع بسهولة، مما يعكس دوره في إيصال الرسائل الصعبة والنقد الاجتماعي. وهذا ما يتناسب مع المثال الشهير “اللسان ما فيه عظم”.

فاللسانُ هذا العضوُ اللينُ، الخالي من العظام، يُعتبر سلاحًا حادًا ذو حدين؛ يُحسن استخدامه مَن يُتقنُ توجيه كلماته، ويضلُّ السبيل من يَخدعه بريقُ اللفظ، بين شاعر يطوع هذا السلاح ل”يقول مالا يفعل”، وسياسي يوظفه بحذقٍ ل”يفعل مالا يقول”.

فالشاعر، هو سيد البيان والخيال، ينسج كلماته من وحي ذاته وأحلامه. حين يقول مالا يفعل، فإنما يجسد لنا معاناةً شخصية تُحاكي معاناة البشر جمعاء؛ إن الشاعر في أسمى حالاته يلامسُ الحقائق العميقة في النفس، لكنه غير ملزم بتطبيق ما يكتب. فالشعر، لغةُ التمرد والأمل، لا يُحاكم بشروط الواقع، بل يتجاوز حدود المألوف، ويُحلق في فضاءات الممكن والمستحيل.الشاعر، إذن، لا يُنتَظر منه أن يفعل ما يقول، لأن رسالته رسالة إلهام ورمزية، وليست فعلية. فالشعراء، كما وصفهم أفلاطون، هم “كاذبون بالفطرة”، ليس بمعنى التضليل، بل بمعنى أنهم يُلهِمون، يَتَخيَّلون، يُلوِّنون الحقائق. يقولون ما لا يفعلون، لكنهم بذلك يحرّكون وجدان الناس نحو فعل ما لا يمكنهم قوله. لكن، وعلى الرغم من هذا التسامح الفني الذي نُحيط به الشاعر، فإننا نُدرك أنَّ شاعرًا يُكرر وعودًا يترنح صدقُها ويتقافز في كلماتٍ خالية من الالتزام بالمبادئ التي يدعيها، يُصبحُ كالريح يعبُر دون أثر، ويهيم كصوتٍ يتردد في وادٍ موحش دون أن يترك صدى.

أما السياسي، فهو نقيض الشاعر. السياسيُّ ميدانه العمل ومحل اختبار صدقه هو الواقع؛ كلماته لا تُحتمل الخيال، لأنها تتعلق بآمال الناس وأحلامهم ومصائرهم. أن يفعل السياسي ما لا يقول، يعني أن ينتهك الأمانة التي يحملها، ويحوّل اللسان إلى أداة للخداع والتضليل. هذا السياسي يلبس قناع الصدق لكنه يسير في دروب السراب، يتجنب الوضوح ويكتفي بمداعبة مشاعر الجماهير بشعاراتٍ رنانة، بينما تنوء أفعاله بحقائق مغايرة لما يُعلن. وهذا التناقض بين القول والفعل يعكس أزمةً أخلاقية تهوي بقيم السياسة إلى حد السخرية، وتجعل الأمل في السياسيين الصادقين نادرًا كمن يحلم بقطرة ماء في صحراء جرداء.

وهكذا، تتجلى المفارقة العميقة بين شاعر “يقول ما لا يفعل” وسياسي “يفعل ما لا يقول”، الأول يبني عالمه الخاص بلا التزام، والآخر يفرُّ من التزامه بعالمٍ لا يتناسب مع وعوده.

فاعلم، أيها السياسي والشاعر والإنسان العادي، أن “اللسان ما فيه عظم” لم يعد حجةً يُستند إليها في مجتمعٍ بات فيه “الوسواس الخنَّاس” سيدَ الأفكار وناقلَ الأخبار. ولو كان اللسان خاليًا من العظام، إلا أنه لا يزال قادراً على كسر العزائم وهدم الثقة، فهو العدو الأشرس إن لم يُضبط ويُوجَّه. فقبل أن تنطقَ بكلمة أو تنسجَ شعراً أو تخوضَ في خطابة، تأنَّ وتدبَّر ألف مرة ومرة، فالكلمة سيف ذو حدين، قد يحميك إن صنتها أو يهوي بك إن أفلتت منك. ولهذا يردد العرب قولهم الحكيم: “لسانك حصانك، إن صُنتَه صانك وإن هُنتَه هانك”. يعبر هذا المثل عن ضرورة ضبط اللسان واستعماله بحكمة؛ فاللسان، أداةً للحقيقة أو سلاحًا للباطل، هو قوةٌ رادعةٌ حين تُحسن توظيفه، وهادمةٌ حين تُطلقه بلا وعيٍ أو تدبر.

إن المثل العربي يدعو، في فصاحته وسِرّ حكمته، إلى التفكير المتعقل قبل الكلام، فصاحب اللسان الحصيف يدرك أن الكلمة قد ترفعه أو ترديه، وأنه، أمام الظلم أو الفتنة، لا بد له من وزن الكلمة بميزان الصدق والعدل.