بقلم: عبد الدين حمروش
شاعت ظاهرة إنشاء مؤسسات ثقافية، في العقود الأخيرة بالمغرب، على غرار مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد، مؤسسة بوبكر القادري، مؤسسة محمد بنسعيد ومؤسسة عبد الواحد القادري. والملاحظ أن من المؤسسات ما كانت من خلفية سياسية مثل التي ذكرنا، أو من خلفية ثقافية مثل مؤسسة محمد عابد الجابري، أو مؤسسة الفقيه التطواني. إن البحث عن الإرث الرمزي، بالنسبة إلى إنشاء معظم هذه المؤسسات، كان أحد الأهداف، لتخليد شخصية من الشخصيات، بتسمية المؤسسة باسمه.
في الغالب، تكون الأسرة هي الباعث على إنشاء المؤسسة، ترسيخا لذكرى أحد أفرادها، ممن كان له حضور سياسي، أو ثقافي. ومما يمكن سوقه، بهذا الخصوص، مؤسسة القادري بالجديدة، التي ارتأت أسرة الجنرال عبد الواحد القادري إنشاء مؤسسة باسمه، اعتمادا على مال الأسرة الخاص.
إضافة إلى ذلك، قد يكون الحزب (أو ثلة من منتسبيه) هو الباعث إلى إنشاء المؤسسة. المناضل التقدمي، محمد بنسعيد أيت يدر، مجرد اسم واحد، ممن حملت إحدى المؤسسات الثقافية اسمه، على سبيل ترسيخ توجه ثقافي تقدمي، كان المرحوم أحد الفاعلين الكبار فيه، منذ انطلاق شرارة المقاومة ضد الحماية الفرنسية. يمكن الزعم بأن مؤسسة محمد بنسعيد، التي أنشئت على خلفية سياسية- ثقافية، هي الوحيدة التي وجدت في حياة المناضل المرحوم. غير ذلك، فالثابث، في معظم الحالات، أن المؤسسة تأتي بعد وفاة من تحمل اسمه.
من جهة أخرى، يمكن الإشارة إلى أن هناك مؤسسات ثقافية، حاضرة بقوة فعلها في المجال الثقافي في البلاد. هذا، في حين هناك مؤسسات أخرى، ليس لها من الحضور إلا وجود “البناية” فقط. ولذلك، ليس بغريب أن يكون الحصول على الدعم المادي هو المطلب الأول والأخير.
بديلا عن المؤسسات الثقافية التقليدية، من قبيل جمعية اتحاد كتاب المغرب، التي ظلت تقتضي قدرا من الديمقراطية لاستمرارها، كانت هناك مؤسسات ثقافية أخرى، ليس لها من الحرص على ضمان استمراريتها، إلا وجود عضو فاعل (من الأسرة في غالب الأحيان) ضمن هيأتها، كما هو الحال مع المؤسسات الثقافية، ذات المرجعية العائلية. في مقابل ذلك، ظلت المؤسسات الثقافية التقليدية الكبرى عرضة للتقلبات التنظيمية، بفعل عدم القدرة على التسوية الديمقراطية للملفات و القضايا. وفي هذا السياق، يمكن تسجيل عنصر الدينامية في المؤسسات التقليدية، الذي قد يتحول من مؤشر قوة إلى مؤشر ضعف، بفعل ما قد يؤدي إليه من تشرذم في المؤسسة، وبالتالي خفوت صوتها. على العكس من ذلك، يمكن تسجيل عنصر الثبات بالنسبة إلى المؤسسات العائلية، بالنظر إلى غياب التعدد المرجعي فيها (التعدد السياسي والتعدد الثقافي).
في الأخير، يمكن الحديث عن مؤسسات ثقافية أخرى، هي بمثابة أندية مغلقة. “بيت الشعر في المغرب”، مجرد مثال واحد. والملاحظ أن هذا النمط من المؤسسات الثقافية واقع بين النمطين السابقين. فإذا كان “البيت”، المؤسس على خلفية أدبية محض، والمهتم بتوجيه أنشطته نحو الشعر، حصيلة وجود جماعي لثلة من الشعراء، فإن انطلاقته كانت بمبادرة فردية. لم تكن فكرة “البيت”مغربية في الأصل، مادام قد سبقته بيوتات أخرى في أكثر من بلد عربي (إذا بقينا في نطاق الحدود العربية). غير أن “البيت المغربي” يظل هادئا مستقرا، باقترابه من تنظيم النادي، وليس من تنظيم الجمعية الموسعة (على غرار اتحاد كتاب المغرب).
ومما يمكن تسجيله عن نمط البيوتات الأدبية، هو خفوت الخلفية الثقافية (السياسية) في مرجعيتها. على سبيل التوضيح، نادرا ما نلفي بيت الشعر المغربي يصدر بيانات، يتابع من خلالها مجريات الأحداث السياسية (أو الثقافية ذات الخلفية السياسية) إلا في ما ندر. وحتى إن وجدت متابعات على هذا الصعيد، فهي قليلة من جهة، ومنتقاة،
بحرص شديد، من جهة أخرى. لذلك، نجد “البيت” قد نجح في حماية نفسه من التقلبات التنظيمية، بحكم انغلاقيته التنظيمية، وانحسار مجال نشاطه، وبعده عن التدافع السياسي للمنتسبين إليه، وقوة الحضور الشخصي للمؤسسين له.
إن بيت الشعر المغربي مجرد مثال من أمثلة عديدة. وأعتقد أن الموضوع يحتاج إلى مقاربة سوسيولوجية موسعة، من شأنها أن تساهم في الوقوف على الإبدالات الحاصلة، على مستوى المؤسسات الثقافية الراهنة في البلاد، من حيث هيكلياتها، وأدوارها، وأهدافها.