«غير اجي أوقول درت وزير وسفيرة» على ضوء «رسول الملك» للجاحظ

بقلم: زكية لعروسي

في ضوء ما أورده الجاحظ عن “رسول الملك”، تتجلى أمامنا صورة دبلوماسية قديمة تستند إلى أصول راسخة وتقاليد عريقة، لا تقل أهمية في الوقت الحاضر عما كانت عليه في الماضي. فالفن الدبلوماسي هو فن عريق، تبلور منذ العصور الوسطى حين كان “رسول الملك” يتولى مهاماً دقيقة وحساسة، تعكس هوية المملكة وتدافع عن مصالحها. يقول الجاحظ :

“ومن الحق على الملك أن يكون رسوله صحيح الفطرة والمزاج، ذا بيانٍ وعبارة، بصيراً بمخارج الكلام وأجوبته، مؤدياً لألفاظ الملك ومعانيها، صدوق اللهجة، لا يميل إلى طمع ولا طبع، حافظاً لما حمل. وعلى الملك أن يمتحن رسوله محنةً طويلةً، قبل أن يجعله رسولاً. وكانت ملوك الأعاجم، إذا آثرت أن تختار من رعيتها من تجعله رسولاً إلى بعض ملوك الأمم، تمتحنه أولاً، بأن توجهه رسولاً إلى بعض خاصة الملك، ومن في قرار داره في رسائلها. ثم تقدم عيناً عليه، يحضر رسالته ويكتب كلامه. فإذا رجع الرسول الرسالة، جاء العين بما كتب من ألفاظه وأجوبته. فقابل بها الملك ألفاظ الرسول. فإن اتفقت أو اتفقت معانيها، عرف الملك صحة عقله، وصدق لهجته، ثم جعله الملك رسولاً إلى عدوه، وجعل عليه عيناً يحفظ ألفاظه ويكتبها، ثم يرفعها إلى الملك. فإن اتفق كلام الرسول وكلام عين الملك، وعلم أن رسوله قد صدقه عن عدوه ولم يتزيد عليه للعداوة بينهما، جعله رسوله إلى ملوك الأمم، ووثق به. ثم كان بعد ذلك يقيم خبره مقام الحجة.”

لقد أضحى التقليد الدبلوماسي امتداداً لحضارة ثرية، عمقها التاريخ وصقلتها التجارب، ليكون السفراء والسفيرات في عصرنا الحديث واجهة للدولة، ليس فقط على المستوى السياسي، بل أيضاً على المستويين الثقافي والحضاري.

اليوم، ما تطمح إليه الدول من رجال ونساء السلك الدبلوماسي ليس ببعيد عما كان ينتظر من “رسول الملك” في العصور الغابرة. فالمرأة الدبلوماسية، مثل نظيرها الرجل، تُمثل صوت الأمة، ولسانها الناطق في المحافل الدولية، تسعى لبناء الجسور وحل النزاعات وتوجيه العلاقات نحو مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً. وفي هذا السياق، يجب أن نستحضر ما ينجزه دبلوماسيونا الحاليون، مثل السيدة السفيرة سميرة استايلي، سفيرة المغرب في باريس، التي تسعى جاهدة لتوطيد العلاقات بين المغرب وفرنسا، في مهمة تشهد تحديات وتعقيدات فرضتها الظروف السياسية الأخيرة.

سميرة سيطايل، وغيرها من النساء الدبلوماسيات، يمثلن الوجه المعاصر لـ”رسول الملك”، حيث يتحملن على عاتقهن مهمة إعادة العلاقات إلى مسارها الصحيح، وتعبيد الطريق نحو مستقبل مشترك بين الدول. لقد نجحت السيدة السفيرة بفرنسا سميرة سيطايل في إحياء حوار بين المغرب وفرنسا، حوار تميز بالحكمة والدبلوماسية الرصينة، في وقت شهدت فيه العلاقة بين البلدين تباعداً في المصالح. إن المسيرة في السلك الدبلوماسي لا تؤكد فقط على أهمية الاستمرارية التاريخية في العلاقات الدولية، وامتداد التقاليد العريقة التي أرسيت منذ العصور الوسطى، بل تعكس أيضا شجاعة النساء، وقدرة ” بنات بلادي” على تحمل مسؤوليات جسيمة. فالمراة المغربية في شخص سفيرتنا بالديار الفرنسية اثبتت اليوم انها قادرة على أن تشكل جزءاً من حوار حضاري مستدام يضمن استقرار العلاقات ويعزز التعاون بين الدول.

ومن هنا يكمن جوهر الرسالة الدبلوماسية: ليس فقط في الدفاع عن مصالح الدولة، بل في إيجاد الحلول وترميم الجسور عندما تتصدع. في هذا الصدد، يبرز دور وزير الخارجية المغربي السيد ناصر بوريطة، الذي أظهر براعته في تعزيز مكانة المغرب على الساحة الدولية وترسيخ سيادة المغرب واستنطاق رمال صحرائنا بببان حواره. فالدبلوماسية، على مر العصور، لم تكن مجرد أداة للتفاوض، بل كانت وسيلة لإيصال صوت الأمة، والتعبير عن قوتها ومكانتها بين الأمم، وهو ما يتجلى في الإنجازات التي حققها بوريطة وطاقم السفارة المغربية بباريس. لهذا،اختيار طبيعة الاشخاص في المهام الدبلوماسية يجب ان يتم بدقة، كما كان عليه اختيار “رسول الملك”، يقول الجاحظ:

“وكان أردشير بن بابك يقول: كم من دمٍ قد سفكه الرسول بغير حله! وكم من جيوش قد قتلت، وعساكر قد هزمت، وحرمةٍ قد انتهكت، ومال قد انتهب، وعهدٍ قد نقض بخيانة الرسول وأكاذيبه! وكان يقول: على الملك، إذا وجه رسولاً إلى ملك آخر، أن يردفه بآخر.

في هذا النص، يبرز أردشير بن بابك خطورة دور الرسول، حيث يشير إلى أن خيانة الرسول أو كذبه قد تكون سببًا في وقوع كوارث جسيمة. يوضح كيف أن الرسول قد يتسبب في سفك دماء بغير وجه حق، وإشعال الحروب، وهزيمة الجيوش، وانتهاك الحرمات، ونهب الأموال، ونقض العهود، كل ذلك بسبب خيانته أو تحريفه للحقائق. لذلك، يوصي أردشير بأن يقوم الملك، عندما يرسل رسولاً إلى ملك آخر، بأن يرسل معه رسولاً آخر لمراقبته، كإجراء احترازي لضمان الأمانة والدقة في نقل الرسائل. هنا تتجلى لنا الحكمة العميقة في فهم أهمية الدقة والصدق في المهام الدبلوماسية، حيث أن أي تهاون أو خيانة في أداء الرسول قد يؤدي إلى تداعيات كارثية على الدول والشعوب.

الجاحظ يؤكد على ضرورة امتلاك “رسول الملك” لمواصفات دقيقة تشمل الفطرة السليمة، والقدرة على التعبير والبلاغة، والصدق في القول. فيشير إلى أن الملك يجب أن يختبر رسوله قبل أن يرسله في مهمات رسمية، لضمان أنه يعكس بدقة ما يقوله الملك ويفهمه، دون تحريف أو ميل لأي غرض شخصي. فقد كانت ملوك الأعاجم تتبع إجراءات صارمة في اختبار رسلها، حيث تبدأ بإرسالهم في مهام صغيرة داخل البلاط الملكي للتأكد من صدقهم ودقتهم. ويتم مراقبتهم بواسطة “عين” خاصة تراقب ألفاظهم وتدقيق معانيها. فإذا تطابقت الأقوال والمعاني، يتم التأكد من كفاءة الرسول. بعد ذلك، يتم اختباره في مهام خارجية مع ملوك الأمم، مع مراقبة مستمرة لأدائه لضمان أنه لا يتجاوز الحقيقة أو يتلاعب بها.

إن هذه العملية الدقيقة تشير إلى أن الدبلوماسية القديمة كانت تعتمد على اختيار المبعوثين بعناية شديدة، لضمان أن يكون الرسول أداة أمينة لنقل رسائل الدولة، وأنه قادر على التفاوض بمهارة وصدق، دون تحيز أو تلاعب. وهذا يعكس مبدأ حاسماً في الدبلوماسية المعاصرة، حيث يجب أن يكون الدبلوماسي شخصاً موثوقاً ومحنكاً في التعامل مع تعقيدات السياسة الدولية، قادراً على تمثيل مصالح دولته بأمانة واحترافية.

فالدبلوماسي هو صوت الملك وصورة بلاده، يحمل في قلبه حكمة الأزمنة ويعكس قوة بلاده وحضارتها في وجه التحديات. وهذا ما نراه اليوم في أداء المرأة السفيرة، التي لا تقل شأناً عن أسلافها من الرجال، بل تساهم بفاعلية في تشكيل ملامح المستقبل بين الدول، وتكرس دورها في الحفاظ على كيان الدولة وتمثيل هويتها بحرفية واقتدار.