بقلم: زكية لعروسي
في فصل الخريف، حيث تتساقط الأوراق وتتحرر ارض مغربنا من وطاة أقدام الصيف، يفرض التفاح حضوره في ميدلت، كما فرض نفسه على مخيلة البشر عبر العصور. ليست هذه الفاكهة مجرد غذاء أو علاج، بل هي رمز ثقافي وديني، عنوان للمعرفة المحرمة والخطيئة الأولى، وفي الوقت ذاته مهد لتفسير أعمق قوانين الطبيعة. هنا، بين جاذبية الأرض التي اكتشفها نيوتن وسقوط الإنسان من النعيم بسبب قضمة واحدة، تتداخل الحكايات والأساطير مع الحقائق العلمية، فتولد أسئلة لا تنطفئ جذوتها في قلوب الباحثين عن الحكمة.
فمنذ أقدم العصور، كانت التفاحة أكثر من مجرد فاكهة تُؤكل، فقد عدّها ابن سينا علاجًا فعالًا للسموم وأمراض القلب والنقرس، وامتدحها العلماء كرمز للصحة وطول العمر. ومع ذلك، لم يكن هذا هو الوجه الوحيد للتفاح في العقل البشري؛ إذ قيل إن تفاحة سقطت من شجرة وألهمت إسحاق نيوتن فكرة الجاذبية، التي قلبت فهمنا للعالم رأسًا على عقب، وفتحت الطريق أمام أعظم العقول لترسم ملامح الفكر الحديث. في هذه الفاكهة البسيطة، تكمن قدرة على الجمع بين أسرار الشهوة والجاذبية الجسدية وتحديات العقل، ما يجعلها في قلب الحضارة الإنسانية، و تتسلل إلى أعماق الروح، لتصبح رمزًا للخطيئة الأولى في الأديان السماوية. التفاحة، أو ما يُعتقد أنها كانت، هي التي أخرجت آدم وحواء من جنة الخلد إلى عالم الشقاء.لنصبح جميعا من المبْتَلين على الأرض. لا يحيا لنا أثر إلا مات لنا أثر. يقول الله في كتابه: “وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ”.
ربما هذا الاعتقاد لأن تاريخ وجودها موازٍ لأول لحظة اؤتمن فيها الإنسان وخان، تاتي “تفاحة آدم” العالقة في حلق الرجال، أو قضمة التفاح الآثمة التي قضمها آدم للتذكير الابدي بتلك الخطيئة الآدمية، لانه كان يا ما كان في غابر اللازمكان زوجان يعيشان بين اشجار وانهار النعيم، بشرط ان لا ياكلا من شجرة الغواية (التي يقال انها شجرة التفاح)، لكنهما استسلما لحفيف الشجرة والجادبية، فسقطا فوق التراب الملطخ. تلك هي حكاية، أبينا وامنا آدم وحواء كما وردت في القرآن الكريم، حيث يقول الله تعالى: “فوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّى لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) .
أصبحت الفكرة الراسخة عند معتنقي الديانات الإبراهيمية، وثقافات أخرى قديمة أن شجرة التفاح هي من تسببت في خروج امنا وابينا، وحرمانهما من الجنة، رغم أنه لم يتم أبدا تحديد نوع الشجرة بشكل واضح أو قاطع في الآيات القرآنية ونصوص الديانتين اليهودية والمسيحية، مما يجعلنا نتساءل ما سر اختيار التفاحة بالذات لتكون رمزًا لهذه اللحظة الفارقة، وتتحمل عبء الخطيئة؟ وإذا كانت كذلك: لماذا لم يحرم الله هذه الفاكهة على بني آدم في العالم السفلي؟ هل كان الأمر محض أسطورة تلاقحت مع الرموز الثقافية عبر الأزمان- بحكم ان النصوص الدينية لم تحدد نوع الشجرة التي قضم منها آدم وحواء-، أم أن في التفاح شيئاً من الغواية يجذب الروح قبل الجسد؟
لعل السر يكمن في الأساطير القديمة، التي منحت التفاحة قوة رمزية ساحرة. ففي ملحمة الإلياذة، كانت التفاحة سببًا في إشعال حرب طروادة، تلك الحرب التي دمرت مدنًا وشعوبًا. عندما أرسلت الإلهة إيريس تفاحة ذهبية إلى الحضور في زفاف الملك بيليوس وكتبت عليها “إلى أجملهن”، نشب صراع مرير بين الإلهات أثينا وهيرا وأفروديت. انتهى هذا النزاع عندما اختار باريس أفروديت التي وعدته بأجمل امرأة على وجه الأرض، هيلين، زوجة ملك أسبرطة. تلك التفاحة، التي كانت في ظاهرها رمزًا للجمال، تحولت إلى أداة للفتنة والدمار، كما كانت شجرة الجنة رمزًا للعصيان الأول.
أما في التراث العربي، فلم تكن التفاحة غائبة عن ساحات الأدب والشعر، بل كانت رمزًا للجمال والغواية، ففي حكايا الف ليلة وليلة قُتلت امرأة شابة بسبب اشتهائها للتفاح، مما أطلق سلسلة من الأحداث الدرامية التي خُلدت. وقد كان التفاح حاضرا وبقوة في قلوب الشعراء، إذ كانت تُشبّه به خدود المحبوبات، وتُحاك حوله قصص الشوق والهيام. يقول الصاحب بن عباد:
“وَلَمّا بَدا التُفّاحُ أَحمَرَ مُشرِقاً
دَعَوتُ بِكَأسي وَهيَ مَلأى من الشَفَق”.
وقد اشتهر العرب بأنواع عديدة من التفاح، كل منها يحمل صفة تميّزه: التفاح القُوسي بلونه الأحمر، والتفاح الداماني بحمرته الداكنة التي كانت تشبه بها خدود النساء، والتفاح المسكي والقرشي بحلاوتهما وهشاشتهما ورائحتهما العطرة.
ففي سياق الفهم البشري، يتعانق السقوط الروحي مع السقوط الجسدي. قضمة التفاحة التي أخرجت آدم وحواء من الجنة هي نفسها التفاحة التي سقطت أمام نيوتن ليفهم الجاذبية التي تربطنا بالأرض. بين هذين السقوطين، تفصلنا أجيال من التأمل الفلسفي والعلمي، في محاولة لفهم المصير البشري وأسرار الكون. التفاحة، في نهاية المطاف، هي جسر بين الغواية والمعرفة، بين الانفصال عن الفردوس والانغماس في أسرار الوجود المادي.
وعلى التوجيز، لقد كانت التفاحة عبر التاريخ أكثر من مجرد فاكهة. كانت نافذة على العالم الروحي والعلمي، ومصدرًا للأسرار والرغبات. فهي في لونها الأحمر تجسد الحياة والموت، وفي مذاقها تجسد اللذة والخطيئة. من أساطير اليونان إلى قصص ألف ليلة وليلة، ومن تفاحة نيوتن إلى شجرة الجنة، يبقى هذا الرمز محفورًا في الوعي الإنساني كتجسيد لحقيقة أكبر: أن المعرفة والغواية تسيران جنبًا إلى جنب، وأن الإنسان محكوم بدافع البحث عن الحقيقة، حتى وإن كان الثمن هو السقوط.فتأمل الإنسان في أصله ومصيره. يظل مرتبطا بقصة تفاحة جاذبية الأرض وجاذبية الغواية التي تلخص رحلة بحثه عن الحقيقة.