أنت جاحظ، لكن حي يا عمرو بن بحر!

بقلم: زكية لعروسي

في هذا المقال، لا نسعى إلى التعريف بأبي عثمان عمرو بن بحر الكناني الفقيمي، المشهور بلقب “الجاحظ”، والذي كان يتوق أن ينادى باسمه الحقيقي، “عمرو”، فقد رأى في هذا الاسم فخراً ورفعة، مذكوراً على ألسنة الفرسان والسادة منذ الجاهلية حتى الإسلام، والذي كان يقول عنه : “إن هذا الإسم لم يقع في الجاهلية والإسلام إلا على فارس مذكور، أو ملك مشهور، أو سيد مطاع، أو رئيس متبوع، أمثال عمرو بن هاشم (جد النبي صلى الله عايه وسلم) وعمرو بن سعيد الاكبر، وعمرو بن العاص، وعمرو بن معد يكرب”.

أما أنا، فقد دفعني حب الأدب، والتراث إلى زيارة متحف معهد العالم العربي في باريس خلال أيام الاحتفاء بالتراث، حيث تفتح أبواب المتاحف والبنايات التاريخية لعشاق الثقافة. وبينما كنت أتجول بين أروقة المتحف، وجدت نفسي أمام صورة الجاحظ. إنها صدفة أدبية أن يقف المرء وجهًا لوجه مع إرث أدبي، بين دفتيه لآلئ البلاغة والأحاديث المنقولة من زمن الخلافة العباسية، من المهدي إلى المعتز.

الجاحظ عاش في حقبة تهالك المسلمون على جمع العلم، وتنافسوا في ادخاره، حيث كانت المساجد تكتظ بالعابدين والفقهاء والعلماء، وحلقات الوعظ تعمر كل ركن، تذكر الناس بالله واليوم الآخر، وتحثهم على الطاعة والابتعاد عن المعاصي، كما وصف ذلك الجاحظ نفسه في كتابه (الحيوان):

” كانت المساجد عامرة بالعبادة والنساك وأهل التقوى والصلاح، وكان في كل ركن منها حلقة الواعظ يذكر بالله واليوم الآخر، وما ينتظر الصالحين من النعيم المقيم، والعاصين من العذاب الاليم”.

في مقابل هذا البسط في الورع، شهدت هذه الفترة بذخًا ولهوًا واسعًا، وتفشت ظواهر المجون والتكالب على اللذائذ، إذ تبنّى العباسيون فيها بعض مظاهر المجتمع الساساني، مما أضاف طبقات جديدة من الانغماس في المتع الدنيوية، حيث ازدهرت الحانات، وقد “ساعدت الحرية المسرفة العباسيين في أن يرثوا كل ما كان في المجتمع الساساني الفارسي من أدوات لهو ومجون، حتى اكتظت حانات (الكرخ) ودور النخاسة بالجواري والإماء، والبيان والمغنيين” (الحيوان).

 

 

لكن هذا ليس محور حديثنا. وأنا أمام صورة الجاحظ، شعرت بعظمة العرب وإرثهم الثقافي، وللحظة خلت ان الجاحظ في تلك الصورة لا يزال حيًا، ناطقًا، ينبض بحكمته وفكره العميق. لقد أسرني حضوره، واستحوذ على حواسي، وجعلني أستحضر كل تلك المآثر التي خلدها بفكره وقلمه، من علم الكلام إلى فنون البلاغة، مرورًا بفلسفة المعتزلة التي ارتبط اسمه بها. فهو الذي شق طريقه في هذا الميدان، مؤيداً لمبادئ الاعتزال، مثل العدل والتوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنه لم يكن مجرد تابع، بل قدم آراءً فريدة جعلته مؤسسًا لما يعرف بالاعتزال الجاحظي.

كيف لا أرتجف أمام هذه الجلالة الأدبية، وأنا أعلم أن هذا الرجل كان فقير الحال، غزير المعرفة، لا تفوته صغيرة أو كبيرة في اللغة أو البلاغة أو الفلسفة. هو الذي أمضى لياليه في دكاكين الوراقين في بغداد، يستأجر الكتب ليتعمق في علومها، حتى أصبح صوته يرن عبر الأزمان، ليستقر في عقول الأجيال، ومنها عقل جمجمتي الصغيرة.

لقد بقي ادب الجاحظ حيّا، يستمر في إشعال عقولنا وإثارة خيالنا. فها هو يقف أمامي، وإن كانت صورته جامدة، إلا أن فكره حي ينبض بالحياة، شاهداً على مجد الأدب العربي وعظمته.

العظماء هم من تتحدى أشرعة أدبهم وفنهم صواعق الزمان ولا تمزقها رياحه العاتية، وأنت يا عمرو بن بحر، لا تزال حيًا بيننا في القرن الحادي والعشرين. فلتفخر ذرات عفرك الخالد بهذا المجد، ولتصدح كل اسماك البحار بما خلّدته من فكر وبيان.