شاي على بحر مطرح

بقلم: سعيد بوعيطة

 

بين مطار محمد الخامس، ومطار أبو ظبي الذي يعج بالحركة ومختلف الجنسيات التي تهرول في كل اتجاهات العالم حتى لا تفوت موعد الطائرة، وصولا إلى مطار مسقط الذي يبدو فيه كل شيء هادئا ويبعث الارتياح في النفوس، تمتد الجغرافيا والزمن بشكل يجعل الجسد ينهار من تعب طول الرحلة. لكن تلك الابتسامات الخفيفة التي تستقبلك بها شرطة المطار وجمارك مسقط، تعيد إلى النفس طمأنينتها، وإلى الجسد المنهك حيويته.

اتجهت صوب مقر شركة عمان للإتصالات لتغيير شريحة هاتفي حتى أتمكن من الإتصال بمنظمي المؤتمر بجامعة الشرقية بولاية إبرا بمحافظة شمال الشرقية للسلطنة. حييت الموظف الذي ينقل نظراته بين الزبائن وشاشة حاسوبه، فرد وهو يبتسم. حين طال الحوار بيننا، تدخل رجل عماني بلباسه الأنيق ووجهه المشرق، كان يقف على يميني قائلا:

ـ هل هناك مشكلة؟

فرددت عليه باللغة العربية الفصحى لنتواصل بشكل سليم:
ـ
ـ ليس هناك مشكلة، فقط لا أتوفر على العملة العمانية. لكن سأقتني الشريحة لاحقا. فرد وهو يبتسم:

ـ خذها الآن على حسابي، المغاربة لا يرد لهم طلب.

أحسست من خلال هذا الحوار القصير أن الجغرافية الممتدة من شرق المتوسط إلى غربه، قد تقلصت إلى حدود الصفر. وأن وجودي بمسقط شبيه بوجودي بالرباط، وبمراكش، وبالدار البيضاء، وبأكادير،…الخ. أحسست بالإطئنان والأمان، وأنا بين أهلي ودوي. وقعت على ورقة صغيرة قدمها لي موظف مكتب الإتصالات، وأخذت الشريحة. صافحت المواطن العماني بكل حرارة، واتجهت صوب المخرج الرئيسي للمطار، حيث تنتظرني سيارة منظمي المؤتمر لتقلني إلى ولاية إبرا (إحدى الولايات السبع التي تكون ولايات محافظة شمال الشرقية) حيث فندق الإقامة، وجامعة الشرقية التي احتضنت أشغال المؤتمر الدولي.

شاي على بحر مطرح

بعد انتهاء أشغال المؤتمر الدولي التي دامت ثلاثة أيام، قررت وصديق الفلسطيني الدكتور عطا أبو جبين الذي يحب أن نناديه بأبي واصل (لأن ذلك يوحي له بالعلامة المعتزلي واصل بن عطاء، تلميذ الحسن البصري) إلى ولاية مطرح ذات المكانة التاريخية والحضارية التي تعود إلى ثلاثة آلاف السنين قبل الميلاد. تقع في الجزء الشمالي الشرقي من السلطنة. تطل على شاطئ بحر عمان الذي يرتبط هو الآخر تاريخيا وجغرافيا بكل من الهند والصين وبلاد فارس بالإضافة إلى البحرين، وكذلك شرق افريقيا. مما جعلها منطقة تجارية هامة عبر التاريخ. يحد الولاية من جهة الشرق “حلة مطيرح” ومن الغرب “مدينة القرم” بولاية بوشر، ومن الشمال بحر عُمان، ومن الجنوب نهاية “حلة وادي عدئ”.

سُميت ولاية مطرح بهذا الاسم، للدلالة على وجود مرسى للسفن. ولهذا يُقال: طرحت السفينة مرساتها، بمعنى رست ووقفت، وهناك من يقول: إن مطرح دلالة على طرح البضائع. أقوم بهذه الجولة المسائية رفقة صديقي الفلسطيني الدكتور عطا أبو جبين في السوق التراثي “سوق مطرح” الذي هو في الحقيقة لؤلؤة عمانية أصيلة. مكنونة داخل أسوار ينتظر السياح من مختلف بلاد أرض الله الواسعة لزيارته واكتشاف جماليته العبقة بالتراث وسحر الشرق والبخور ورائحة العطور المختلطة مع روائح اللبان العماني الأصيل. مما يجعل الزائر يسافر عبر التاريخ.

قال لي الدكتور أبو واصل، وهو ينظر في إتجاه محل صغير يبيع الشاي العماني وبعض المشروبات الأخرى:
ـ يا سعيد، هل تشرب شاي عماني؟
وقبل أن أجيبه، أردف قائلا:
ـ وليكن في علمك أنه ليس كالشاي المغربي.
فرددت بدون تردد:
ـ نشرب شاي عماني على بحر مطرح

شاي عمان له نكهة خاصة. مشروب شاي الكرك الدافيء اللذيذ. فلا تكاد تشرب الكـأس الأولى، حتى تتملكك الرغبة في الكأس الثانية وربما الثالثة من شدة مذاقه الرفيع. طلبت أنا وصديقي أبو واصل الكأس الثانية، الكأس في اليد نرشف منها بين الفينة والأخرى، والروائح الزكية تقودنا إلى داخل سوق مطرح الذي يروي حكايا الناس ويحفظ تاريخها العريق. سوق يعود عمره إلى أكثر من مئتي عام تقريباً. استخدم السوق كملجأ في حالات الحروب والكوارث كما حصل إبان الغزو البرتغالي لعمان، وعندما تعرّضت الحامية البريطانية لنيران مدافع البارجة اليابانية في الحرب العالمية الثانية، وفي حالة طوفان مطرح في أربعينيات القرن العشرين. ومع السنين ازدادت أهميته بعدما أضحى وجهة مهمة وأساسية للسياح العرب والأجانب الذين تجذبهم روائح البخور التي تعبق في فضائه.

سوق مطرح، يحكي سيرة الشرق

نشأ السوق قديماً نتيجة امتداد التجمعات السكنية والتجارية حول ميناء مطرح. فكان السوق في بداياته ساحات مفتوحة تمتد من الشاطئ البحري وتباع فيها البضائع الواردة إلى الميناء والمنتجات المحلية كالتمور والمواشي. ثم تطورت هذه الساحات وأصبحت أسواقا صغيرة كل سوق يختص بمهنة معينة، منها سوق المواشي وسوق الحرير وسوق الحدادين. ثم بني حولها سور كبير، كان مدخله الرئيسي يعرف بـ”دروازة مطرح” ولما بني “سور اللواتية”، بدأت معالم السوق تتشكل، فظهر سوق رئيسي يعرف بـ”سوق الظلام”، هو في أصله عبارة عن حجرات متفرقة من البيوت السكنية الواقعة داخل “سور اللواتية” حُوّلت إلى مخازن لبيع البضائع، وتدريجياً زودت الحجرات بأبواب خاصة لتصبح دكاكين تطل على سكك خارجية، والتي هي ممرات مسقوفة إما بالسعف أو بسقوف خشبية مزخرفة ومشغولة بيد العمانيين المهرة وبمساعدة اليد العاملة الوافدة من الهند ودول آسيا، ما جعل هذه الممرات معتمة. أطلق على هذا الفرع الرئيسي من السوق اسم “سوق الظلام”، وتتدلى من سقوفه الخشبية مصابيح من الزجاج الملون والحديد المزخرف. وتعود التسمية إلى العتمة التي تتضاعف في الأيام الغائمة، وتطلق تسميتها على الجزء الذي يمتد من “مسجد اللواتية” إلى “خور بمبه”. وهناك تسمية أخرى لهذا السوق بشقيه الغربي والشرقي اللذين تفصل بينهمـا فتحـة “خور بمبه”، وهي السوق الصغير. أما السوق الكبير فيطلق على سوق “الجملة”.

ويتميز سوق مطرح بممراته الضيقة والمتعرجة والمسقوفة بالخشب وكثرة الأزقة والسكك التي تصطف عليها المتاجر التي تمتاز بأرضية مرتفعة لحماية البضائع من مياه الأمطار وصار التجار العمانيون يستخدمونها كمنصات لعرض البضائع. للسوق أربعة مداخل أو بوابات مصممة بشكل هندسي ذي بعد جمالي ينسجم مع الروح العامة للمكان. يبدأ من البوابة الرئيسية من الجهة الشمالية مواجهة لساحل البحر وميناء سلطان قابوس، وتعرف باسم “باب الكبير”. وينتهي ببوابة تطل على المدينة القديمة من الجهة الجنوبية التي تعرف بـ”دروازة مطرح” التي كانت البوابة الرئيسية للسوق في بداية نشأته حين كان مجرد ساحة عرض، وكانت لها مواعيد محددة للفتح والإغلاق يستحيل مخالفتها، حيث كانت تنتشر تحت “الدروازة” بسط الباعة المتجولين التي يعرض عليها العسل والسمن البلدي والبخور والأسلحة التقليدية والعصي وقد رممت في بداية سبعينيات القرن العشرين. أما من الجهة الغربية فتوجد مداخل توصل السوق بـ”سوق اللواتية” و”سوق الظلام”، في حين يطل من الجهة الشرقية على مكتب والي مطرح.

تتنوع المعروضات في هذا السوق بين المشغولات اليدوية كالفضيات والخناجر العمانية المشهورة والفخاريات والأقمشة الكشميرية المزركشة بالألوان التي تضج بالحياة. تعلو البوابة الرئيسية قبة من الزجاج الملون أنشئت عام 2005 بمناسبة الذكرى الخامسة والثلاثين للعيد الوطني للسلطنة. كانت هذه البوابة في الأصل عبارة عن سوق صغير يسمى “خور بمبة”. والخور عبارة عن خليج يمتد داخل السوق فيشطره إلى ضفتين وتصطف الدكاكين على ضفتي الخور وتعتبر أرضيتها الأكثر ارتفاعاً في السوق وتباع في هذا السوق البضائع المستوردة عبر الميناء والتوابل والبخور واللبان والحلوى العمانية والقهوة والشاي.

بين سوق مطرح وبحره

يقابل سوق مطرح على الواجهة البحرية، ميناء مطرح الذي يعرف بميناء السلطان قابوس الذي هو اليوم بوابة سياحية مهمة للسلطنة، باستقطابه السفن السياحية الكبيرة من مختلف بقاع العالم. ويعتبر السوق والميناء صنوين، لأن ازدهار الأول يلقى صداه في السوق وينعكس عليه ازدهاراً. فكان أن صدر مرسوم سلطاني في العام 2011 بتحويل ميناء السلطان قابوس إلى ميناء سياحي ونقل الأنشطة التجارية إلى ميناء صحار الصناعي، كما تم في عام 2018 إطلاق مشروع لتطوير واجهة الميناء البحرية لتحويلها إلى واحدة من أرقى الواجهات البحرية في الشرق الأوسط. لهذا، لا غرابة أن ترتبط هذه الحضارة العريقة، والموغلة في التاريخ، بالإنسان العماني الذي خبر الحياة وأسرارها، واكتشف معادن الشعوب على اختلاف جنسياتها، ويتصف بمكارم الأخلاق والشهامة والمروءة، وطلاقة الوجه.

وهذا ما اكتشفناه من خلال مشاركتنا في هذا المؤتمر الدولى من خلال مجموعة من الأصدقاء العمانيين. نذكر من بينهم (مع الاعتذار عن عدم ذكر الجميع) (الدكتور ناصر الحسني الذي لا يكل من تقديم خدماته للمؤتمرين القادمين من مختلف بلدان الوطن العربي، والإبتسامة لا تفارق محياه، والمكرم المهندس الدكتور سعيد الصقلاوي الذي يأسرك بتواضعة وفكره العميق وثقافته الموسوعية التي لا ضفاف لها، والأستاذ أبو مهند الذي استضافني وصديقي الفلسطيني في بيته العامر بكرمه الحاتمي وفكره المستنير، و الشاعر محمد الشحري الذي يحب المغرب والمغاربة بشكل كبير، يثقن اللهجة المغربية، ويملك رقم هاتف مغربي دائم…الخ). لهذا، فلا غرابة أن يجعل تاريخ عمان العريق، وإنسانها الأصيل، كل من زار هذا البلد الطيب، يتمنى العودة إليه في أقرب فرصة تتاح إليه.