بقلم: زكية لعروسي
قد وصلت يوما إلى اسماعنا مفردات مثل الرفيق، والشفيق، والوافي، والصاحب، والخليل، والنديم من دون ان نغرق في محاولة فهم معانيها ومعرفة دلالاتها فقد سئل الشبلي، (247- 334), وهو من المتصوفة النساك عن مفهوم الرفيق والوافي والصاحب والنديم، فكان جوابه كالتالي:
-الرفيق: ” من الرفيق؟ قال: من انت غايةُ شغلِه، وأَوْكَدُ فرضِه ونفْلِه.
-الشفيق: قيل له : فمن الشفيق؟ قال: من إن دهمتك محنة قريت عينه لك، وإن شغلتك منحة قرت عينه بك
-الوافي: قيل له: من الوافي؟ قال: من يحكي بلفظه كمالك، ويرعى بلحظه جمالك.
-الصاحب: قيل له: فمن الصاحب؟ قال: من إن غاب تشوقت إليه الاحباب، وإن حضر تلقحت به الألباب.
النديم: قيل: فمن النديم؟ قال: من إن نأى ذُكِر عند الكأس، وإن دنا مُلِك بالاستئناس.”
-الخليل: وهو من الخِلَّة بمعنى المصادقة والإخاء، فيقال: فلان كريم الخِلِّ والخِلَّة..
كلها مصطلحات لها قيمتها ومحلها من الإعراب في علاقاتنا اليومية والوجدانية، والاجتماعية، ولكن يبقى الصديق هو اللفظ الأكثر تداولا، ولو ان المغاربة يستعملون لفظ الصاحب” غادي نتلاقى صاحبي أو نمشي عند صاحبي او صاحبتي”.
أما عن مفهومه (الصديق) فقد سئل أبو محمد بن حمود الزبيدي الأندلسي -وهو من علماء النحو واللغة والمبرزين في الشعر-: ” مِمَّ اخذ لفظ الصديق؟ قال: اخذ [بنظر] من الصِّدْق، وهو خلاف الكذب. ومرة قال مِنَ الصَّدْق، لأنه يقال: رُمْحٌ صَدْقٌ اي صلب، وعلى الوجيز الصديق يصدق إذا قال، ويكون صَدْقا إذا عمل، قال: وصُدْقَةُ المرأة وصداقها وصٌدقتها كله منتجع من الصدق والصَّدق، وكذلك الصادق، والصِّدِّيق، والصَّدوق والصَّدَقَة، والمتصدق، والمصدق، كل هذا متواخ.”
السؤال الذي يطرح نفسه: لم لا زلنا نؤمن بمذهب الصداقة والمعاشرة ، ونحاول ان نتشبت به أكثر، مع ان كل الاشياء حالَت وتلاشت، حتى اواصر القرابة في زمننا هذا، إذ اصيب الناس بالزلل، والخلل -إلا من رحم ربي-، بالرغم من ان بعضنا في غنى عن بعض؟
على الوجيز، الصداقة نفل عكس القرابة التي هي فريضة، فيمكننا تقصيرها ( الصداقة) دون إطناب، أو تزويق، أوإطفاء نار الغدر دون النفخ فيها، عكس القرابة التي قد لا يكون للقريب وفاء في الإخاء، وله جهل بنعمة المحبة، فيكون همه الوحيد أن يخرطك في سلكه، ويجمع بني امِّه وابيه على ما يحب، وما يكره من شدة الأنانية، شيء قد يرسخ الياس والنقمة من قرابة تترائ للجميع من دون رحمة، ونركبُ فيها مطية الخوف والخذلان بدل الكرامة والأمان.
فإن الإنسان لا يمكنه ان يعيش وحده، ولا بد له من اسباب بها يحيا، وحتى لا يَحلَس بيته، ويلازمه، كان ولابد له من معاشرات أخرى من غير بني امه، وأبيه، والبحث عن صديق قد لايكسب بسهولة، ولا يوجد متى طلب، وقد يكون صدوقا، أو عدوا، أو منافقا، أو نافعا، أو ضارا. فيحاول الإنسان أن يقابل كل وجه من هذه الوجوه في اصدقائه، ويستفيد في العاجل، وإما في الآجل من هذه الصداقة بما يعود بحسن العقبى عليه.
الأصدقاء هم طبقات -مثل الشعراء- فهم إما غذاء، أو دواء، أو سم كجميع الناس، وقد صنف بن أحمد الحراني- وهو شاعر – في تصنيف الناس إلى ثلاثة اصناف:
1- ناس كالغذاء الذي يمسك رمقنا ولا بد منه على كل حال، لأنه قوام حياتنا، وزينة دهرنا. وهم خِلَّة مسلحين بالتقوى، والاخلاق، والذين يوصي القرآن بطلب مصاحبتهم، فيقول الله تعالى في سورة الزخرف:” الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين”
2- ناس كالدواء يحتاج إليهم في الحين بعد الحين على مقدار محدود
3- ناس هم كالسم الذي لا ينبغي أن نقربه لانهم سبب هلكتنا.
إذن هل يمكن اعتبار تشبتنا بالصداقة مجرد وَهْمٌ وسط نسق حياة لم يعد يسمح بهذه الأخيرة ؟ وهل مازال هناك صديق، ام فقط شبيه بالصديق، ام ما تبقى الا شبيه الشبيه بالصديق؟ ام لم يبقى هناك إلا من ينتحل النصيحة، وهو عدو في جلد صديق.. عظامه احقاد، ولحمه نار من الضغائن؟
الايام هي التي تعري طبيعة هذا النوع من اللئام. أصحاب التملق، وثعالب في جسد إنسان، إذا غاب الصديق قلبوا عنه وبدَّلوا ما يُزينُه شَيْناّ، فيصبح هذا الاخير كمن يتداوى بالرياء و النفاق،حتى يفرج الله، “فالعاقل ما يْكونْ طمَّاع ويصبر للكاين والموجود”
فقد سئل أبو المتيم الصوفي: كيف حالك مع فلان؟قال: نتداوى بالرياء إلى أن يفرج الله، قيل : هلا تخالصتما عن الرياء والنفاق؟ فقال: والله إن خوفي ان يصير الرياء والنفاق مكاشفة، والمباشرة مفارقة، أشد من خوفي من الرياء. والعجب أن المؤونة علينا في الصبر على هذه الحال أغلق من المؤونة لو تصافينا، إلا أن التصافي لا يكون مني وحدي، ولا منه وحده، ولعله يتمنى ذلك مني، كما اتمنى ذلك منه،…والعاقل من لا يتمنى ما لا يوجد، ولكن يصبر على ما يجد إن حُلْوا فحلوا، وإن مُرّاً فمرا”
هي أمور الله في خلقه، حاجتنا للصديق وخيرنا في وفائه، وتوخينا في مودته، ولهذا وجب التريث في اختيار الصديق، وعندما يتم ذلك تنطبق المقولة المغربية ” اللي بغا سيدي علي يبغيه بقشاوشو”؛ فقد قيل يوما لاعرابي:” الك صديق؟ قال: أما صديق فلا، ولكن نصف صديق، قيل: فكيف انتفاعك به؟ قال: انتفاع العريان بالثوب البالي.”
الصداقة إذن تتطلب أن يفتل حبلها فتلا محكما حتى تقوى وتستمر. فالصاحب من يسحر بلفظه، ويكون مزبدا بعقله، فهي – كما اشرنا- ليست بفرض ولكن هي نفل، لهذا تسكن لها النفس والروح إذا كان الاجتماع في الطبائع، والإخلاص في المودة. فهي تعتمد على النصيحة، لا على الطاعة والائتمار، وكذلك على التشرف بمصاحبة الصديق والاعتماد عليه بدرجات عالية ليس فيها إلا المودة والإمتاع وصرف العيون عن المحاسبة ، فالصديق لا يحاسب، كما أن العدو لا يحتسب له، وقد قيل يوما لأبي علي النصير:
” لم لا تتخذ الأصدقاء؟ قال: حتى أفرغ من الاعداء، فوالله لقد شغلوني بأنفسهم عن كل صديق يعينني عليهم، وإزالة العدو عن العداوة أولى من استدعاء الصداقة من الصديق”
فمهما نقل أو نفعل ” ما عندنا هروب من قدر الأصدقاء” لأنهم سر حياتنا الاجتماعية ، ومنهم استشاراتنا، ويمثلون جزءا من ماء وجهنا، فكما قال الشاعر: لا تسألن عن امرء واسأل به إن كنت تجهل أمره ما الصاحب
وهذا ما يردده الاباء صباح مساء في تربيتهم لأبنائهم “مع من شفتك شبهتك”
فالأصدقاء “عيننا ميزاننا”، فعيونهم تبين ما هم كاتمون، فقد نلقى بعضهم بعد غياب فلم يزدننا على كيف حالنا، ويشاطرننا كل شيء ، ثم قد نلقى البعض منهم كل يوم، فيسالوننا عن ما أكلنا، وعن مالنا وزيادته، وعن ” الياجور” ونبته، وعن لذات الدنيا من مال وبنون. وكان معالم المودة ، والمحادثة سدت طرقهما وانحصرت في نفق الاستهلاك، والشراء. امور قد تجري بين البعض من إخوة هذا الزمان ” شنعة علي ما غطات وذني”.. علاقات- كما يقول القدامى- مثل طيب ريح “مرقة” الطباخ في السوق أو. منظر “الكاطو” عند بعض الباعة في باب سيدي عبد الوهاب بوجدة لا طعم لهما وانت تحاول أن تذوق منهما.
أصبحنا نمسك عن كل شيء يتعلق بالعلاقات الإنسانية ، فأَمَتْنا سُنَّةَ السَّلَف، ووأَدْنا المروءة. فلكم هو شوقنا إلى صديق أو اخ إذا غضب عفا، وإذا رضي كفى!!!
لا يمكننا ” ان نخلط العرارم” فالصداقة عكس العلاقة، تتماشى مع مسالك العقل، والمروءة، وهي بعيدة عن نَوازي الشهوة والتهيم بين الجنس الواحد أو بين الجنسين -اي الذكران والإناث- فيحضر فيها العقل وظله، وفضائل الاخلاق، وفوائد التجارب، والأخذ باهداب السداد وحبال الوفاء. وجلوس الصديق على حصيرك دون تصنع، فقد تضيق الدنيا بين متباغضين في مكان متسع ، ويتسع شبرا في شبر بين متحابين.
وكما قيل:
“ما بقي من لذات الدنيا إلا محادثة الإخوان، وأكل القديد، وحك الجرب، والوقيعة في الثقلاء”
فالمحادثه لا تتم إلا مع ذوي العقول في مجالسنا التي امست ” مجالس عكاظية ” بامتياز، وهم (أصحاب العقول) إذا عُدُّوا كانوا اقل من القليل، وتكتمل جماليتها (المحادثة) مع ذوي النصيحة، إذ قال بعض السلف:” ضربة الناصح خير لك من تحية الشانئ” الذي يبغضك ويعاديك، وهذا ما يعادل مثلنا المغربي ” دير رأي اللي يبكيك. ماشي اللي يضحكك”
إلا ان بتداول النيت وكثرة صناديق الكمبيوتر والهواتف -على حد امي خيرة-، جعل اغلبية الاسر تبكي وتودع نصائح السلف، واسكتت الصديق واطبقت الشفاه، فلم نعد نرى أسنان، وابتسامة، ووجه صديق نثق وننتفع به، فلا نحتاج إلى أن يبتهج المكان بوجوده، ولا ان نستنشق نسيم الشوق إليه. فقد اخذ الهاتف النقال مكان الصديق وأصبحنا عبيدا لقطع من البلاستيك هي لكل شيء، للجد والهزل، والقليل والكثير. ففقدنا الصديق الذي هو غدير الروح، وروضة العقل. نحاول ترتيق الرقعة في ثوبنا بالفراغ، ودون مجهود لاختيار ما يناسبها بإمعان، وتريث، وبما يتطابق مع الثوب الذي نلبس حتى يكون الوضوح في زمن أمسى التصافي والتخالص في ذوي الرحم والاصدقاء كالشاذ، والتنافس والتعادي أكثر وأشدَّ.
فاللهم اجعلنا من الصابرين على اشياء قد تفيض من عُظْمِها قلوبنا، وابعدنا من اصدقاء باطنهم يذم و لا يحمد، ومن يتسترون بالرياء، وليس بينهم وبين الإخلاص إلا عقد نية، ومن هم ذووا لونين، غير دائمين على خلق، ومن هم ” محزمين بسوء الظنون”، إن علموا الخير يخفوه، وإن علموا شرا اذاعوا، وإن لم يعلموا كذبوا وإن غبنا عنهم قطعوا الجلد بالسب. وفي هذه الحال وجب النأي حتى لا نصبح من المَقلِيِّين لهم السم والبغض (من فعل قلى بمعنى ابغض)، بل أكثر من هذا وجب تطبيق المثل الذي تردده والدتي خيرة وجميع الأمهات لفلدة كبدهن ” الجرب يعدي والخلطة تربي دِير عشَّكْ وَحْدْكْ ازَّعْطوُطْ اوْلْدِي”