باريس: زكية لعروسي*
ونحن نستقرأ “المقدمة” لابن خلدون يترائ لنا مشروعية بل ضرورة طرح السؤال التالي: هل تأثر ابن خلدون بالجاحظ في التأليف في بعض المواضيع لا سيما فيما يتعلق بالعمران وعلاقته بالامم والحضارة الإنسانية، وكان بإبن خلدون يواصل في مقدمته استكمال بحوث معارف تطرق لها الجاحظ في كتابيه المشهورين ” الحيوان” و” البيان والتبيين”؛ ولا عجب في ذلك لان المعرفة العلمية والتاريخية والاجتماعية تختزل جهود السابقين واللاحقين” ولولا تقييد العلماء خواطرهم على الدهر، ونقرهم آثار الأوائل في الصخر، لبطل أول العلم وضاع آخره. ولذلك قيل: ” لا يزال الناس بخيرٍ ما بقي الأول يتعلم منه الأخير ”
ويسكنها القول أن الجاحظ كان سباقا إلى تشكيل رؤية خاصة عن الثقافات والحضارات وعلاقاتها بالعمران و علم الاجتماع، مما يدل على وعيه وانفتاحه على الآخر دون ان تذوب ثوابته المذهبية والعربية:” ولكني اخذت بآداب وجوه اهل دعوتي وملتي ولغتي وجزيرتي وجيرتي، وهم العرب.”
. تتجلى هذه الرؤية المكونة والتي تتفاعل فيها العناصر التي ذكرناها عندما يتحدث الجاحظ عن العرب، والثقافات الأجنبية المجاورة للثقافة العربية الإسلامية وعن موروثها الثقافي المنقول، وعن تفاوت واختلاف المستويات المعرفية فيما بينها:” ” إن الامم التي فيها الأخلاق والحكم والعلم اربع، وهي: العرب، والهند، وفارس، والروم” جاعلا بعضها أميز من بعض. فهو يرى أن الروم ليست لهم شان في الثقافة الموروثة مثل اليونان، بل ادعوا وراثة العلوم بسبب القرب والاحتكاك فالروم من دون رصيد يعتد به في مجال الموروث.
فلا احد منا يجهل ما قدمه ابن خلدون من خلال كتابه “المقدمة”، عن الحضارات، لكن نجهل الكثير عما أشاد به الجاحظ في كتاباته الغنية بما حققته الامم من إنجازات حضارية وفكرية متعددة الصور والاشكال والمجالات.
بين الجاحظ -في غير مناسبة- كيف أن بعض الامم حفظت التراث الحضاري والثقافي باعتماد البناء مثلا وتشييد العمائر كما هو شان العجم والعرب الذين كان تراثهم المعماري قصورا ،وأعمدة، وحصونا وقناطر وابوابا، ويرى الجاحظ أن العرب عمدوا إلى الشعر كوسيلة أخرى لحفظ مالم يستطع البنيان حفظه من تراثهم.
ويشيد الجاحظ في غير موضع بالثقافة الهندية السنسكريتية وما تهيأ للهنود من نبوغ في مجالات شتى كالصيدلة والطب والسحر والتصوير والغناء والنبات والطعام والحكمة مستدلا بكتاب “كليلة ودمنة”، وما قدمته من كشوف حسابية رقمية إلى الفكر العلمي البشري برمته، ف” لولا خطوط الهند لضاع من الحساب الكثير والبسيط، وبطلت معرفة التضاعيف.”
ويطري كذلك على تفوق الصينيين في الصناعات، والفلسفة و الحكمة والخطاب والسياسة، وبراعة الثقافة اليونانية الإغريقة في صناعة الفلسفة والمنطق وعلوم الكلام.
ومن جهة اخرى، يخصص الجاحظ رسالة مشهورة فيما يتعلق بفضائل الترك وبطولاتهم العسكرية فهم عنده ” أصحاب عمد وسكّان فياف وأرباب مواش، وهم أعراب العجم كما أنّ هذيلا أكراد العرب. فحين لم تشغلهم الصّناعات والتّجارات، والطّبّ والفلاحة والهندسة؛ ولا غرس ولا بنيان، ولا شقّ أنهار، ولا جباية غلّات، ولم يكن همّهم غير الغزو والغارة والصّيد وركوب الخيل، ومقارعة الأبطال، وطلب الغنائم وتدويخ البلدان، وكانت هممهم إلى ذلك مصروفة وكانت لهذه المعاني والأسباب مسخّرة ومقصورة عليها، وموصولة بها، أحكموا ذلك الأمر بأسره، وأتوا على آخره، وصار ذلك هو صناعتهم وتجارتهم، ولذّتهم وفخرهم، وحديثهم وسمرهم.
فلمّا كانوا كذلك صاروا في الحرب كاليونانيين في الحكمة، وأهل الصّين في الصناعات، والأعراب فيما عددنا ونزّلنا، وكآل ساسان في الملك والرياسة” وبهذا لا يعترف الجاحظ للاتراك بثقافة تركية ينمازون بها وكان ذلك بسبب بداوتهم المغرقة والتي حالت امام رقيهم في سلم الحضارة.
وقد تطرق الجاحظ في كتاباته لثقافات أخرى واقوام لم يتسن له التعريف بهم ربما لجهله لهم، ولهذا لم تتشكل لنا رؤية واضحة المعالم بل اكتفى بالإشارة إلى بعضها مثل الخزر، والديلم، والأكراد، والبربر، فهذان الاخيران (الأكراد والبربر) قد شكلا حيزا كبيرا في كتاب ” المقدمة ” لابن خلدون.
تحدث الجاحظ عن هذه الثقافات الوافدة دون أن يتعارض مع مذهبه العقائدي المعتزلي والعلمي، معتزا بالثقافة العربية الإسلامية، ومعتدا بالعقل والجدل والشك لتسجيل الحقائق.
ولقد خلص الجاحظ إلى حقيقة تتمثل في انَّ التراث المعماري المُشيَّد -على مدار حلقات التاريخ الإنساني- لا يعد من أدق وسائل الحفاظ على الموروث الثقافي الاممي لما يتعرض إليه من الهدم لأسباب دينية وسياسية وحربية، فلهذا وجب تقييده بالكتب المدونة، فهي (الكتب) حسب الجاحظ : ” أبلغ في تقييد المآثر من البناء والشعر”؛ بل يعتبرها :” أولى من بنيان الحجارة و حيطان المدر؛ لأنّ من شأن الملوك أن يطمسوا على آثار من قبلهم، و أن يميتوا ذكر أعدائهم، فقد هدموا بذلك السبب أكثر المدن و أكثر الحصون، كذلك كانوا أيّام العجم و أيّام الجاهليّة. و على ذلك هم في أيّام الإسلام، كما هدم عثمان صومعة غمدان، و كما هدم الآطام التي كانت بالمدينة، و كما هدم زياد كلّ قصر و مصنع كان لابن عامر، و كما هدم أصحابنا بناء مدن الشامات لبني مروان.”
وقد كان الجاحظ محقا فيما ذهب إليه من جهة أن التراث المدون ينماز على المشيد بسيرورته، وانتقاله، وتداوله من امكنة إلى أخرى ومن أشخاص واقوام إلى آخر، فهو موروث قابل وسهل نقله من قرن إلى قرن حتى لا تبقى المعرفة حكرا على أمة دون أخرى.
وبناء على ما طرحناه وما اوردناه من نتاج الجاحظ، تبدو بوضوح شرعية طرح السؤال: من كان السباق إلى التأليف في موضوع العمران وربطه بحضارة الامم: هل ابن خلدون ام الجاحظ؟ الم يظلم الجاحظ بإنكار أهمية ما كتبه بلذة ادبية ومتعة وجمال عن فن العمران والاجتماع والحضارة؟ هل كتاب “المقدمة” هو تلاقح طبيعي و ذرع في هذه السبيل لإغناء هذا المجال والاعتداد بما ينفع الثقافة العربية الإسلامية عن شعوب أخرى لم يتناولها الجاحظ باستيفاض؟.
ايمكن أن ندفع بسؤالنا أو تساؤلنا: ما يضير باحثينا حين التحدث عن العمران وعلم الاجتماع إبعاد الجاحظ عن هذه الدائرة وحصرها في كتابات ابن خلدون؟ هل هذه الملامح المضيئة التي ذكرنا بعضها هنا، من مواقف الجاحظ غير كافية للاعتراف له بمقدرته الفائقة وعدم إنكار معرفته وسبقه في فن التأريخ والعمران والبيان والمنطق؟؟؟؟!!
*شاعرة مغربية