كتبه: سعيد بوعيطة
نحن و الأفواه الواسعة
عنوان هذه المادة ليس لي، وإنما اختاره الروائي المغربي الراحل محمد زفزاف، عنوانا لروايته ”أفواه واسعة” الصادرة سنة 1998. وقد اعتمدته لحاجتين في نفسي. الأولى تتعلق باستحضار روح هذا الروائي المتميز الذي كنا نشاهده (أنا وأصدقائي) جالسا بهدوء بإحدى المقاهي على رصيف شارع الروداني (المعاريف) بالدار البيضاء أواخر تسعينيات القرن الماضي، أما الثانية، فترتبط بما يحيل عليه عنوان الرواية من دلالة ومعنى عميقين. وإذا كان المستوى اللغوي/ السطحي لهذا العنوان يوازي ما سنبسط فيه القول فيما سيأتي من أسطر، فإن الأفواه هنا، تقتصر على جانبها المادي (الفيزيولوجي). فعلى الرغم من أن الرواية تحمل في بنياتها النصية أبعادا سردية ودلالة عميقة، فإن المستوى السطحي لعنوانها، يؤشر على ما يميز الإنسان العربي (المغربي). هذا الأخير الذي لا يملك من القدرة والقوة اليوم، إلا الفم الواسع لا غير. دلالة تتقاطع مع المثل الشعبي المغربي المتداول ”ما فيه غير الفم’‘. هذا الفم الذي لا يعرف إلا الكلام الكثير والأكل الكثير، وأشياء أخرى (الفاهم يفهم). فهل نحن فعلا كذلك؟ هل تحولنا إلى ظاهرة صوتية كما يؤشر على ذلك عنوان كتاب الباحث عبد الله القصيمي ”العرب ظاهرة صوتية” الصادر في طبعته الأولى عن منشورات الجمل سنة 2000؟ وهل نحن فعلا قوم أفواههم واسعة لا يتقنون إلا الكلام الكثير حد الثرثرة والأكل الكثر حد التخمة؟
أفواه واسعة للكلام
مما لا شك فيه أن أفواهنا الواسعة تجعلنا نتحدث في كل شيء بدون علم، وندعي معرفة كل شيء. كأننا موسوعة في العلاقات الاجتماعية، وفي القانون العام والخاص، والطب، والسياسة، والعلاقات الدولية، وهلم جرا. إننا ببساطة نعرف كل شيء وأفضل من أي شخص آخر. يكفي أن نقصر سراويلنا، ونطيل لحانا وألسنتنا، لنناقش أمور الدين والدنيا بغير علم، ونتحدث عن ابن تيمية وخلفه (المقدسي، وابن القيم الجوزية، وابن كثير)، ونحن لم تسبق لنا رؤية العين لكتاب من كتب ابن تيمية وغيره. ونتحدث عن سياسة البلاد والعباد، ونحن لا نعرف كوعنا من بوعنا. لنحمل صفة الغباء، وينطبق علينا قول الزمخشري” الغبي هو الذي لا يفرق بين الكوع والكرسوع”. هؤلاء هم نحن لا سوانا. نماذج لا تعد ولا تحصى لأفراد محترفون في بيع الكلام بالمجان (أو بالمقابل أحيانا). لكن المشكلة تكون أعظم، حينما يكون بعض المسؤولين على مثل هذه النوعية. فيصبح السواد الأعظم من المجتمع، يتعايش مع خيالات وأوهام وأخبار فنتازية غير واقعية. فبدلاً من مواجهة الواقع والوعي بالتحديات التي تقف أمامنا، نسقط في حفر تخدير بسبب كلام كثير، ومعلومات مضللة. مما يجعلنا من ضمن الذين سلط عليهم صمويل دوك (الطبيب النفساني الذي اهتم بإنجازات جوليا كريستيفا) الضوء عند تحليله لمعضلة الإفراط في الفردية المعاصرة. حيث ذهب إلى أن الذين يدعون معرفة كل شيء، يتمتعون بخاصية نرجسية. لكن على الرغم من أن خطابهم الواثق يوحي بالصلابة، فإنه يخفي في الواقع هشاشة خطيرة. تغذيها الشكوك ومشاعر القلق. ويضيف صمويل دوك أن الانتقال السريع الذي عرفته الروابط الاجتماعية إلى العوالم الافتراضية المختلفة، قد قوى هذا النوع من السلوك. بحيث أصبحت صورنا وسيلة لتأكيد أنفسنا، وأصبح الفكر والتدبر أقل أهمية وأكثر هشاشة. لهذا، نبه المختصون في علم النفس السريري إلى أن هذه الشخصيات (ذات الأفواه الواسعة)، يمكن أن تظهر لغة السيطرة في أي موضوع. هكذا، أدت بنا كثرة الكلام إلى قول كل شيء والحديث في كل شيء بدون علم ولا معرفة.
في الحد من شهوة الكلام
اليوم أصبحت المجتمعات في حاجة إلى الإنجاز، والعمل، وتقدير الجهود التي تبذل من أجل السعي في النهاية لتحقيق الأهداف التنموية المستدامة، والإعلام باعتباره أداة مشاركة للناس في سعيهم لهذا الجانب من التنمية (الإنجاز)، فإنه مطالب بتقديس المهنة من أجل كسب تأييدهم واحترامهم عبر الحقيقة التي تنشر، أو تداع، أو تصور. لأن الناس في حاجة ماسة إلى إيجاد محددات وضوابط لهذه الأفواه الواسعة. ليس من أجل إغلاقها (لأن حرية التعبير مكفولة لكل واحد)، لكن لتجاوز المثل المغربئ أجي يا فم وقل”. بمعنى إطلاق العنان للكلام. لأن التضليل والمراوغة، قد يقلبان السحر على الساحر. اليوم ونحن في زمن بات للمعلومة الصادقة، والحقيقة المجردة قيمتها، بات البحث عن الإنجاز الفعلي في العمل من العامل البسيط إلى المسؤول الكبير، وفي مختلف القطاعات، الشغل الشاغل لكل من يسعى إلى التطور والتقدم. وبالتالي الوضوح والصدق في القول والعمل باعتبارهما مفاتيح تعزيز الثقة في المجتمع، وفي الإعلام وأدواته المختلفة كذلك. لهذا نقول للأفواه الواسعة: اصمتوا رحمكم الله. لأن الصمتُ يستركم، فتبدون أقل دمامة وجهلا وعارًا وضآلة وإيذاءً للعيون والعقول. وأنّ أنبل ما تفعلونه هو أنْ تصمتوا. لكي لا ينطبق عليكم قول صاحب كتاب ”العرب ظاهرة صوتية الذي مفاده أن العربي لينتصر بالقول أقوى مما ينتصر المنتصرون بالفعل، وأن أفواه العرب هي البديل الجيد الدائم المرضي عن كل المواهب والالتزامات الأخرى المطلوبة من الإنسان والمفترضة فيه. لهذا، فبقدر ما يعجزون عن الفعل بالفعل، يبالغون جدا في الفعل بالقول.