كتبه: عبد الدين حمروش
تتناول هذه المقالات سيرة المؤرخ المغربي أبي القاسم الزياني. وزيادة على كون “ابن زيان” عُرف بالتأليف التاريخي، فقد تقلّب في وظائف مخزنية عديدة، منها الكتابة، والوزارة، والسفارة، والولاية، والحجابة. عاصر الزياني (أبو القاسم) خمسة سلاطين علويين ابتداء بالمولى عبد الله بن إسماعيل، وانتهاء بالمولى عبد الرحمن بن هشام، إلى أن كُتب له أن يشرف على المائة سنة. في مختلف مسارات حياته السياسية والعلمية، صدر أبو القاسم عن مواقف أصيلة، أهّلته إلى أن يوصف بزوبعة عصره. في هذه المقالات، نستعيد سيرة رجل دولة من الطراز الرفيع، قلّما يعرفه المغاربة من غير المطلعين على التاريخ، ونستعيد معها القضايا السياسية والثقافية المستجدة آنئذ، في اشتباكها مع ما كان يدور في القصور والبلاطات، من مؤامرات وتصفيات حساب، بين الأمراء والوزراء والكُتّاب.
(الحلقة التاسعة)…
نظم الزياني الشعر، إضافة إلى عنايته بالتأليف التاريخي. وفي جل ما كتبه، كان يقف وقفات شعرية، سواء عبر نظم أبيات فِي ما كان يجري حواليْه من أحداث، أم الاستشهاد بأخرى لشعراء آخرين من عصره، ومن عصور غيرها مختلفة. لم يكن الزياني ليبلغ ما بلغه الكنسوسي من جودة في شعره، لأن ما نظمه الأول لا يعدو “منظومات”، بالمعنى الدقيق للمفهوم. وتحسن الإشارة إلى أنه، حين كان بشأن تعديد مؤلفاته في “الترجمانة”، وقف عند أرجوزة ” ألفية السلوك في وفيات الملوك”، ليقول عن طبيعة شعره فيها مُعترفا: ” ثم جعلت لذلك النظم الوضيع، والوزن الساقط الصريع، لأني لستُ من أهل هذا الميدان، وممن له اليد الطولى في معاناة الأوزان”.
قد تكون مقاربة شاعرية الزياني مُفيدة، من حيث الوقوف على تعددية شخصيته، في مختلف مجالات الكتابة التي اشتغل بها. غير أن ما يمكن قوله، إجمالا، هو أن الزياني مؤرخ، وكاتب رسائل سلطانية (وإخوانية وما شابه). ومع ذلك، يمكننا تَلمُّس ذائقة “الرجل” الشعرية، عبر مُتابعة المحاورة الشعرية التي جرت بين الكنسوسي والزياني. للإشارة، المحاورة كانت غير مباشرة، بحكم أنها جاءت في إثر تعليق المراكشي على الفاسي، تصويبا منه للتأويل الذي ذهب إليه الثاني، في فهمه لبيتي الشاعر سليمان الحوات:
مات أمير عصرنا محمد /// وقد كفى الله اليزيد شــرّه
وإن ترد تاريخه فإنـــــّـه /// قد قدّس الله العزيز ســرّه
للإحاطة بالمناسبة، التي نُظم فيها البيتان، فالثابت أنها تمثلت في وفاة السلطان سيدي محمد. وتعليقا على البيتين، قال الزياني: ” وما كان من حقه أن يصف السلطان الجليل بهذا الوصف السّقيم العليل، ولو أجمل وقال:
مات أمير عصرنا محمد /// وحرم الله اليزيد أجره
وإن ترد تاريخه فرشـــد /// وقدس الله العزي سرّه
لكان أولى وأحسن من وصفه بالشر، وأقرب من تلك الجملة وأحصر”. ولفهم البيتين، من المناسب استحضار طبيعة العلاقة بين السلطان سيدي محمد وولده الأمير المولى اليزيد. فلا نقاش حول الخلاف بينهما، الناتج عن سعي الابن للإطاحة بالأب، عبر التآمر عليه مع القبائل والعبيد. ومن أسباب وفاة السلطان، كان قدومُه وبه مرض خفيف من مراكش، في طريقه إلى الأمير المعتصم بضريح الشيخ عبد السلام بن مشيش “فتحمل المشقة، وجدّ السير، فتزايد به المرض في الطريق فوصل إلى أعمال رباط الفتح في ستة أيام، فأدركته مَنيّته رحمه الله وهو في مَحفّته على نحو نصف يوم أو أقلّ من رباط الفتح”.
ونظرا للعلاقة الوثيقة بين السلطان ووزيره، فقد كان من الطبيعي أن يراجع الزياني الشاعر الحوات في بيتيه، على أساس أن بهما طعنا في شخص سيدي محمد، عبر نسب الشر (المفترض أنه كان مصوبا باتجاه ابنه الأمير) إليه. بعبارة واحدة، لا يأتي من السلطان إلا الخير، فكيف ينسب إليه الشرّ؟ هكذا، فهم الوزير البيتين، وهكذا عدّل فيهما ليستقيم معناهما، على نحو ما كانت تطيب إليه نفسه. فهل كان الشاعر الحوّات قد قصد نسب الشر إلى سيدي محمد، ولو عرضا في سياق الحديث عن موته؟
للبحث عن الجواب، يمكن العودة إلى الكنسوسي، الذي لم يترك صاحبه الزياني إلا أحصى عليه سقطاته. يقول في “الجيش العرمرم”، استحسانا لما رثى به الشاعر الحوات السلطان من جهة، وتعليقا على ما أبداه الزياني من مُؤاخذه تجاه الشاعر ذاته، من جهة ثانية. يقول الكنسوسي: ” وهو حسَن إلى الغاية، ولما كان الزياني أجنبيا من مقاصد علماء البديع والبيان اعترض على القائل المذكور، فقال: وما كان من حقّه أن يصف السلطان الجليل بهذا الوصف السقيم العليل (…) وهذا كلام من لم يذق شيئا من أسرار الكلام، ومن لم يكن له قط بغير الظواهر إلمام”.
إذا كان هذا هو رأي الكنسوسي في الشاعر والمعلق (الناقد)، فما دواعي مؤاخذته لأبي القاسم، في مَا ذهب إليه في فهمه للبيتين؟ ها هنا، أقدم المراكشي على عرض تفسير في غاية الطرافة، بعيدا عن ذاك القريب الذي أتاه الفاسي. واعتمادا على اللغة الجارحة ذاتها، التي ظل يخاطب بها الأول الثاني، وجدناه يقول: ” فإنه عمد إلى ما شيّده الفقيه العلامة الفصيح البليغ من الجناس بين شرّه وسِرِّه فهدمه، وسنّ عليه أكداس الإهمال فردمَه، وظن أن الشر المذكور مناط بجانب السلطان وليس كذلك، فإنما هو مُتعلق بجانب مولاي اليزيد الذي يقع به، وينزل عليه، والشر هو كل ما يخالف مُراد الإنسان، كما أن الخير هو ما يوافق مراده، نعوذ بالله من الغباوة المُركّبة”.
لا يستبعد هذا الفهم للبيتين الفهم الآخر. وإن وجّهت فهم الزياني لهما، بناء على معرفته بسياق العلاقة بين السلطان والأمير، إلا أن أمورا دلالية وبلاغية حالت دون تبني المراكشي فهم الفاسي. بالنسبة إليه، ما اقترحه الثاني، يهدم الجناس الحاصل بين “شره” و “سره”. فما يكون الشعر بدون الالتفات إلى مثل هذه ” التصاريف” البلاغية؟ غير أنه إضافة إلى هذا، ذهب الكنسوسي إلى معنى أعمق، مختلف عما ذهب إليه الزياني تماما. هل تقصّد الشاعر ربط السلطان بالشرّ، بالإحالة إلى جِدّه في القدوم إلى ابنه المعتصم، بهدف إيقاع هذا ” الشر” به؟
على كل حال، هذا ما ذهب إليه أبو القاسم، ومن ثمّ كان اعتراضه على مجرد ربط الشر بالسلطان. وإلى جانب الاحتفاظ بهذا المعنى “القريب الظاهر”، الذي تزكيه وقائع الأحداث بين السلطان والأمير، هناك فهم مختلف لأبي عبد الله، وهو الذي ذهب فيه إلى أن الشر المذكور ليس مناطا بجانب السلطان ” فإنما هو مُتعلق بجانب مولاي اليزيد الذي يقع به، وينزل به”. ذلك أن الشر الذي كفّه الله عن اليزيد، ليس شر السلطان الوالد، وإنما هو شر اليزيد الذي كفاه بشره.