الفنان التشكيلي عزيز أزغاي يعرض جديده الإبداعي برواق “Noir sur Blanc” بمراكش

 يحتضن رواق ” noir sur blanc ” بمراكش  معرضا تشكيليا للفنان عزيز أزغاي، ابتداء من يوم الجمعة 31 مايو 2024 إلى 24 من يونيو المقبل. في الورقة التالية، يسلط فاروق يوسف، ناقد عراقي مقيم في لندن، الضوء على العمق الشعري في أعمال الفنان التشكيلي.

عزيز أزغاي … مبدع بثلاثة رؤوس

تجعلك تجارب عدد من الفنانين المغاربة في حالة استعداد للقبول بمنطق اللغة التي تتوزع بين الشعر والمعالجة البصرية. هناك جهد كبير استغرق عقودا لنصل إلى نتائج تبدو اليوم مثمرة وإيجابية. فالعلاقة ليست ملفقة بالرغم من غموضها. هناك شعراء أصيلون هم في الوقت نفسه رسامون حقيقيون وهم في الحالين لا يقيسون المسافة بين فن وآخر بالأدوات التقليدية.

غير أن عزيز أزغاي يبدو ظاهرة استثنائية في ذلك المجال. فهو شاعر ورسام وهو في الوقت نفسه ناقد فني، درس النقد أكاديميا. تلك مشكلة. كيف؟

لقد نجح المغاربة في التقريب بين لغتي الشعر والرسم، بحيث صار مقنعا أن نتحدث عن شاعر رسام أو رسام شاعر. غير أن الناقد لا بد أن يقف في مكان آخر. مكان يوصد أبوابه على نوع محكم من اللغة. وهي لغة يغلب عليها منطق مختلف، تمتزج من خلاله المساءلة بالرصد من غير أن يتخليا عن عنصر المكاشفة الجارح.

الغريب في ظاهرة أزْغاي أنه رسام مُمْتِعٌ وهو شاعر حسَّاسٌ وهو في الوقت نفسه يمتلك من الرؤية الفكرية والفنية ما يؤهله لأن يكون ناقدا. من وجهة نظري فإن الموهبة في ذلك المجال لا تكفي. هناك قدر عالٍ من الحِرفة هو ما جعل أزغاي قادرا على أن يحوّل طريقته في التفكير الفني إلى نهج نقدي لكي يكون كل شيء تحت السيطرة.

في حالته، فإن أزغاي ينتقل من موقع إلى آخر بعد أن يقيس المسافة التي تفصل بين الموقعين. فالناقد سيكون دائما شخصا آخر. هل ستضطرب المسافة في المستقبل؟

ربما كانت موهبته استثنائية. ذلك مؤكد. ومن المؤكد، أيضا، أن احترافه كان على قدر عال من الصرامة. غير أن فتوحاته البصرية في الرسم ولمعانِ لغتِه في الشعر ستقف مثل علامتي استفهام أمام الناقد الفني.

أزغاي هو وريث اتجاه فني مغربي يقوم على الاختزال. وهو ما ينسجم مع طريقته في إحالة العالم إلى نسيجه الشعري الذي يستند، أصلا، على التقاط لحظة التوتر. وهي لحظة خاطفة، خفيفة الوطأة بالرغم من حمولتها الثقيلة. لذلك، تبدو المعالجة الفنية أشبه بمحاولة الإمساك بالانفعال في لحظته. ما من تخطيط مسبق. الرسام هنا يعيش حالة إلهام مباشر، تنفذ يده بطريقة تلقائية ما يمليه عليها خياله الذي يطارد أشكالا لن تكتمل. ما من شيء يُرى فيُوصف وما من حكاية تقع لتُسْرَد.

يستند أزغاي في معالجاته البصرية على تأثير الواقعة وليس على الواقعة نفسها. تلك مهمة صعبة، ذلك لأنها تتطلب أن يتحرك منفذها في الفراغ وهو فراغ يؤثثه أزغاي بأشكال لا يستعيرها من الواقع بقدر ما يستخرجها من العناصر الأساسية للرسم، التي غالبا ما تكون بالنسبة إلى الرسامين وسائل لإظهار الأشكال وليست هدفا. في حالة أزغاي فإن تلك العناصر تستدرج بحضورها المباشر على سطح اللوحة روح الجمال وقوة تأثيره.

النموذج الذي يطرحه أزغاي من خلال تجربته في تعدد الانشغالات الفنية، وإن كان فريدا من نوعه، فإنه لا يحقق هدفه إلا من خلال تطور سبل الارتقاء بالتفكير الفني لدى النخب الثقافية. وإذا ما عرفنا أن تلك النخب لم تتحرر حتى هذه اللحظة من أسلوبها القديم في عزل الأنواع الفنية، بعضها عن البعض الآخر فإن تجربة أزغاي تتعرض للكثير من سوء الفهم.

فليس المطلوب مثلا أن تتم مقارنة رسومه بقصائده، بهدف المفاضلة بين الشاعر والرسام. فبعد كل هذا الزمن التجريبي يَظهر أزغاي، باعتباره فنانا، لا يعاني من ازداوجية في الموقف من الشعر والرسم. وهو لا ينظر إلى الرسم من جهة الشعر، وفي المقابل، فإنه لا يرى الشعر باعتباره فعلا ناقصا يكمل من خلاله ما فعله الرسام.

الشاعر والرسام حاضران لديه بقوة الإلهام اللغوي. هناك ما يُكتب وهناك ما يُرسم. لذلك فإنه يجد نفسه مضطرا إلى التعبير عن مزاجه باللغة التي تفرض نفسها عليه لا باللغة التي يمكن أن يستبدلها بلغة أخرى. يمكنك أن تقرأ أشعاره ولا تتذكر الرسام. ويمكنك أيضا أن ترى رسومه ولا تتذكر الشاعر. ولكن هناك لحظات فالتة تقع بطريقة غير مقصودة، يكشف أزغاي من خلالها عن ذائقة جمالية هي من نتاج ثقافته وطريقته الخاصة في التفكير في الفن.

أما حين يتعلق الأمر بالناقد الفني فالمسألة شائكة، تدخل في إطار الرسالة الثقافية التي عاهد أزغاي نفسه على القيام بها. يعوّل أزغاي على النقد الفني في تطوير الذائقة الجمالية لدى النخبة وهو يفكر بتجربته الفنية.

في حقيقةِ ما يفعل، فإن الفنان والشاعر المغربي إنما يفكر في وضع حلول لمشكلاتنا الثقافية عن طريق التوصل لوصفات مبتكرة، هي نتاج عمله في مختبر لغوي قد تفاعل الصوت والصورة فيه حتى ظن الكثيرون أنهما الشيء نفسه.

من خلال عروضه المشتركة يُظهر أزغاي اعتزازه بأنه ينتمي إلى جيل سيُعتبر في ما بعد جيلا مؤسسا لحداثة فنية مغربية جديدة. غير أن ما يعجبني في سلوك ذلك الجيل أنه حين يلتفت إلى الوراء لا يجد عيبا في التعبير عن شكره لعدد من الفنانين الذين ظهروا في أوقات سابقة وكان لهم أكبر الأثر في تشكيل ذائقته الجمالية وميوله الفكرية.

أزغاي هو ابن جيل يُمهد، بأصالة، لولادة فن تشكيلي مغربي جديد.