بقلم: عبد الدين حمروش
تقف بالساعات قبالة التلفاز، لملاحقة يوميات الحرب على الناس والشجر والحجر. تفرح لصد أي توغل آلي، ثم تحزن عميقا ومليا، بل وتتألم حين يرتقي شهداء بالمئات، عند آخر وجبة صواريخ؛
أقسى إحساس، يمكن أن ينتاب المرء، الغاضب مما يسلط من حمم، أن تغدو يوميات القتل أكثر اعتيادية وروتينية. مع كل وجبة، من فطور أو غذاء أو عشاء، حصة من صور جثث ممزقة. وحين تنتبه إلى أنها أشلاء بشرية، تقذف ما في فمك من طعام، خشية أن يتسرب شيء منها إلى جوفك.
أن تستفيق على مشاهد القتل، وأن تنام على آخر جردة لعدد الشهداء، لهما من المشاهد الأكثر اختبارا للحس الإنساني: في استنكارك الدائم للتصريحات البليدة إزاء قضايا الحرية، في رفضك المتواصل للتعليقات الجبانة على ما يحدث للأبرياء المظلومين، من أطفال ونساء وشيوخ.
التحدي المطلوب منك على الدوام، أن تستمر في الإحساس بكونك ما تزال على قيد الإنسانية، لا على قيد الوجود.
في مواجهة تبلد الإحساس، أو بالأحرى تكلسه، غاية المنى أن تظل الحواس مستنفرة. كأن الصواريخ الذكية والغبية لم تنهمر إلا توا، على الرغم من بشاعة توقع استمرار ذلك، بل وحتى تخيله؛
أن تقرأ في قصاصة أنباء، حق المحتل في الدفاع عن النفس، وبعبارة أخرى الحق في تدمير جيل كامل من الحياة، بناسها وشجرها وحيوانها، وتستمر -أنت- في ممارسة حقك بالحياة: تأكل، وتشرب، وتعمل، وتتناسل، ثم تنتظر نهاية اجتماع مجلس الأمن، وما قد يسفر عنه من قرارات. وفي آخر المطاف، وبعد كل ذلك، تلقي بجسدك المتهالك على السرير، على أمل الفوز بحصة من لامبالاة، ولو مؤقتة، لما يجري من فظائع. كيف يكون كل ذلك؟!! كيف تقبل أن يكون؛
أن تلتقي صديقا، أو رفيق طريق، ويحدثك – تذاكيا منه – عن واقع اختلال موازين القوى الحالية، عن خدمة المقاومة أجندة الآخرين في المنطقة، وعن لا جدوى الممانعة في زمن التطبيع المتواتر، ثم يتركك في موقف المفجوع المجنون، حين لا يذكر حق الناس في قضمة هواء من حرية، في قسط من وطن، وفي صفحات من ذاكرة مشتركة؛
وعلى الرغم من ذلك، وبسرعة الضوء الفائقة، تحول اتجاه القناة: تشاهد الضحايا يستحمون في شواطىء القطاع، تشبثا بالحياة إلى آخر رمق، أملا في غد آخر أفضل…
تشاهد طلاب الجامعات مرابطين بالساحات، احتجاجا على ما يجري للبشرية من مآس، أمام برودة مسؤولي الأمم المتحضرة، الذين حولوا تقارير حقوق الإنسان إلى شيكات ابتزاز ومساومة، في وجه كل من قد يرتفع صوته بالاستنكار والإدانة.
بالتأكيد، التكلفة الإنسانية جد مرتفعة. غير أنك فهمت أن الآخر في مأزق استراتيجي. ماذا بقي، لكي يستهدفه بالقصف، عدا تطلعات عشاق الحرية، التي لن تسدل، ولن تهزم؟!!
الآن، أدركت كيف ينتفض الدم على السيف، وكيف تنتصر الضحية على السياف.
الآن، الآن، وليس غدا، أجراس العودة فلتقرع.