صدر للكاتب و الصحفي عبد الحميد جماهري مقال في موقع “العربي الجديد” بعنوان “العدل والإحسان … الظاهر الغابر في الحقل السياسي المغربي”. و نظرا لأهمية المقال في فهم “رؤية” جماعة عبد السلام ياسين و خروجها الإعلامي الأخير، نعيد نشره بالكامل.
بقلم الكاتب و الصحفي: عبد الحميد جماهري
اختارت جماعة العدل والإحسان المغربية شهر فبراير/ شباط لتقديم وثيقتها السياسية، بعد قرابة ربع قرن على تأسيس الدائرة السياسية لها، باعتبار الدائرة هي إعلان ميلاد ذراعها السياسي، توازيا مع الذراع الدعوي الذي شكل جوهر ميلادها، وهي تعتبر تأسيس الدائرة السياسية “تجربة أولى للتأسيس لهذا التمايز…”. وجاء الموعد الجديد كذلك على بعد قرابة عقدين على تهاوي “رؤية” الشيخ المؤسّس، عبد السلام ياسين، بحدوث “قومة”، أي انتفاضة عميقة في المجتمع، سنة 2006، لكنها لم تحصل أبدا، ولبّى الشيخ نداء خالقه بدون أن يشهد ما حلم به
وقد سبق لعالم السياسة والباحث محمد الطوزي صاحب كتاب “الملكية والإسلام السياسي في المغرب”، في حوار مع كاتب هاته السطور، أن شرح التوتر بين الدعوة والسياسة من خلال هذه “الرؤية” التبشيرية، حيث قال: “مشكلة جماعة العدل والإحسان هي أنها ذات وجهين، على غرار شخصية جانوس الأسطورية، وجه حزبٍ سياسي حقيقي، متجذّر ومنظّم ومهيكل بطريقة جيدة تجسده الدوائر السياسية، والتي يمكنها أن تعلن عن نفسها، حين يحين الوقت المناسب، كحزب سياسي. ومن الآن نعرف أن معدل الالتزام والمداومة بالنسبة للمناضلين هو خمس سنوات أو ست، يُضاف إليه الانضباط الثابت وهيكلة وطنية ··· إلخ·· وخلاصة القول إننا أمام مجموعة من المناضلين السياسيين المحتملين.
الوجه الآخر هو وجه طرقي (الزاوية)، وهناك توتر حقيقي بين الطرفين. في الوقت الراهن، ما زالا يعيشان ويتعايشان بانسجام، لأن الشيخ ما زال موجودا، إذ يلتقي في شخصيته الوجهان”. وقد تكون وفاة الشيخ فاتحة عهد جديد عنوانه الأبرز هو الحزبية السياسية عند الجماعة. كما اختارت الجماعة، الأكثر راديكالية في طرحها السياسي قاموسا جديدا، يبتعد نوعا ما عن الذي ظل الشيخ المؤسّس رحمه الله يسوّق به مشروعها في قيام دولة الخلافة على منهاج النبوة.
وهكذا تابعنا، على طول ما يقارب 160 صفحة، برنامجا سياسيا، يبدأ بتعريف الجماعة وينتهي بتصورها لما يجب أن يكون عليه المجتمع والدولة. وما من شك أن هناك سياقات موضوعية وأخرى ذاتية تتحكم في عودة الجماعة إلى التواصل الإعلامي السياسي… ولعل الدعوة تتجدّد هذه السنة، بعدما أصيبت التجربة الإسلامية في الحكم، التي خاضها حزب العدالة والتنمية طوال عشر سنوات، بنوع من التآكل، بل يمكن القول إن الفاعل المركزي في الدولة المغربية استطاع أن يسقط “الهالة السياسية” و”التفوّق الأخلاقي” عن جزءٍ من مكوّنات الدعوة الإسلامية والحركة المرافقة لها سياسيا.
ولعل الجماعة اختارت أن تضع نفسها في سياق وطني محلي خالص عندما عرَّفتْ نفسها حركة “إسلامية مغربية الأصل والمنشأ”، بدون الإحالة على أي تجربة أخرى، ومنها تجربة جماعة الإخوان المسلمين التي شكلت قاعدة ظلال لـ”العدالة والتنمية” أو الجماعات التبليغية بالرغم من أن وجودها ليس في منأىً عن تأثيرات مُضمرة في بنياتها الذهنية والتنظيمية.
وتريد الجماعة أن تكرّس هذه الاستقلالية والمحلية في تفريع ثان يتعلق بشعاراتها المؤطِّرة لها، تحت يافطة ثلاثية ترفض السرّية والعنف والتبعية للخارج… ففي سجل السرية، توجد الجماعة في المنزلة بين المنزلتين، فهي غير مشروعة قانونا ولكن السلطات تتساهل مع وجودها وتحرّكاتها، في حين يحدُث، بين الفينة والأخرى، أن تقع توتراتٌ تصل إلى حد تشميع مقرّاتها أو منع أنشطتها، كالشواطئ الخاصة التي أرادتها ذات صيف شواطئ تفصل بين الذكور والإناث. لكن هذه النيات، في التعبير عن “محليّتها”، لا تعني، في المقابل، أن “العدل والإحسان” ليست موضوع رهانات خارجية. أو عتبة لبعض التحركات الدولية، ذات الصلة بمجريات الأحداث في المنطقة.
واليوم، يعرف الكل أن التقدير الأميركي لقضايا الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا يمر بدون مستتبعات، فقبل “العدل والإحسان” كان لأميركا رأيها في “العدالة والتنمية”، وقد تتبعنا، قبيل سنوات الربيع الفبرايري، كيف أن أخبار العلاقة بين أميركا والحزب كانت تملأ الصفحات الإعلامية، بل إن تقديرات السفارة الأميركية حول النتائج الانتخابية لحزب عبد الإله بنكيران، منذ ما بعد 2002 كانت تهزّ الحقل السياسي المغربي، ولم تمرّ بدون نقاشات وسجالات… ومختبر التحليل الأميركي مرّت منه معادلة “العدالة والتنمية” نفسها. وقد سمعت من مسؤولٍ رفيعٍ في الدولة المغربية تحليلا معزّزا بمعطيات وأخبار عن وجود إرادة أميركية منذ 2002، في أن يكون حضور “العدالة والتنمية” يتجاوز الحضور السياسي البرلماني وقتها، وكانت “وصفة” التطبيع مع الدولة والوجود ضمن قمرة القيادة الحكومية واردة، بل “منصوح بها”، في سياق ما كان يروّجه ضمن إشراك الاعتدال السياسي الإسلامي في ما بعد سبتمبر/ أيلول 2001.
وعليه، فإن “العدل والإحسان” تخضع للمشرط الدولي، والأميركي، من ذلك أن تقريرا أميركياً كان واضحا في الدعوة إلى تجسير الفجوة بين النظام والجماعة. وذلك بعد ثلاث سنوات من الربيع المغربي في 24/09/2014. وقد وضع التقرير الصادر عن معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى تحت عنوان “جماعة العدل والإحسان، في قلب التحدي الإسلامي بالمغرب”، والذي قدّمه العبد الفقير إلى رحمة ربه في حينه، الاحتمالات الواردة من أجل التأثير في مواقف “العدل والإحسان” والقصر الملكي، والعلاقة بينهما. جاء في هذا التقرير أنه “على الولايات المتحدة، القيام بشيء ما للتأثير على القرارات الداخلية لجماعة العدل والإحسان، أو تكثيف مجهوداتها للدفع في اتجاه المصالحة بين الجماعة والقصر. وبالنظر إلى أسس السياسة الخارجية في المغرب والغموض الذي يلف توجه الجماعة، فإنه يتعين على واشنطن السعي وراء الخيارات المبنية فقط على الوضوح بخصوص الخطوات القادمة للجماعة”.
كما دعت توصية في التقرير إلى تسهيل “المصالحة بين القصر والجماعة، وإدماج الجماعة في النظام السياسي”. وفي هذا الإطار، يقول التقرير “فإن تعبير القصر عن انفتاحه وقبول ضم الأطراف التي لا تنهج العنف قد يحفّز الجماعة على الاعتدال سياسيا”. وفي تقدير الموقف، ختم التقرير بالقول “إن جماعة العدل والإحسان، التنظيم الذي يحظى بالشعبية ويثير قلقا كبيرا للنظام المغربي، وصلت إلى مفترق الطرق. وعلى المغاربة استغلال هذه الفرصة، على الولايات المتحدة أيضاً اعتماد الوسائل الهادئة المتاحة لها لتقديم المساعدة حيثما استطاعت”. ولعل السنوات التي مرّت على التقرير زادت من تآكل الجماعة، لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية، منها تجربة “العدالة والتنمية” المشار اليها أعلاه، والتي أعطت فكرة عن حدود التجربة الإسلامية في التدبير السياسي، ثم وفاة زعيم الجماعة وموحّد سيرتها الشيخ عبد السلام ياسين، إضافة إلى غياب ابنته نادية ياسين عن المشهد السياسي العام وعن المشهد الخاص للجماعة في ظروف غير مشجّعة، ثم حدود إصلاحات قوية، على مستوى بنية الحكم ودستوره يجعل دعوتها في مفترق الطرق.
مقابل ذلك، أبانت “العدل والإحسان” عن قدرتها على التكيّف مع السقف السياسي للبلاد، في أقصى لحظات التغيير، كما حدث في فبراير/ شباط 2011. وعملت تحت سقف جمعها مع القوى الإصلاحية والراديكالية على حد سواء، من حيث مطالبتها بإسقاط الفساد والاستبداد، وليس النظام كما فعلت مثيلاتُها في الدول الأخرى. وعلى مستوى البنية التنظيمية والهوية، تبتعد عن كونها حركة ثقافية فكرية، كما أنها ترفض أن تحشر نفسها في تعريف محدّد باعتبارها “حزبا سياسيا بالمعنى المتداول للحزب السياسي”، لكن الوثيقة السياسية تكاد تعيد على قارئها كل الترسانة المفاهيمية والإصطلاحات التي تعجّ بها الأدبيات الحزبية في المغرب، يساراً أو يميناً او احتياطياً.
ولعل مما يثير تساؤلات القارئ أن حركة إسلامية، بمعنى دينية تكتفي بالدعوة الى دولة مدنية، وهي في ذلك تعلن عن هدفها في “قيام دولة عصرية عادلة منضبطة للتعاقد الدستوري المنبثق عن الإرادة الشعبية، دولة مدنية بكل ما يعنيه ذلك من بعد عن طبيعة الدول الثيوقراطية والعسكرية والبوليسية”، وتعمل من بعد ذلك على تأثيث خطابها بكل ما يوجد في الأجندة السياسية للأحزاب الأخرى، بل حتى بالنسبة لخطاب الدولة نفسها… بالقاموس المعتاد “دولة القانون والمؤسّسات القائمة على الفصل والتوازن والتعاون بين السلطات، وعلى التداول السلمي للسلطة من خلال انتخابات حرّة ونزيهة ومنتظمة وفعّالة، دولة تسعى عبر مؤسساتها وبرامجها إلى مشاركة المواطنين في الحياة العامة، مع خضوع مسؤوليها للمحاسبة والمساءلة بغض النظر عن مكانتهم السياسية ومواقعهم الاجتماعية”.
وهو إقرار بنجاعة آليات ديمقراطية كثيرة وفاعليتها في تحصين الدولة والمجتمع وتحقيق التداول السلمي على السلطة، وما يرتبط بذلك من فصل بين السلطات، ومنع تغوّل سلطة على أخرى، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وإرساء التعدّدية السياسية، وكفالة الحقوق والحرّيات، واحترام الدستور والقانون”. وبالرغم من أن الجماعة قد التزمت أسلوبيا بـ”التدرّج والمرونة” وعلى لغة مشتركة، فإنها تدعو إلى حلّ جذري في بناء الهندسة الدستورية، وذلك بـ”إعادة تأسيس دستور”، عبر ما تسميه “الجمعية التأسيسية غير السيادية”، وهو ما يعني “انتخاب الشعب لهيئة تضع مشروع الدستور، ثم يطرح هذا المشروع على استفتاء عام”. وفي الواقع فقد حيَّنت الجماعة مطلبا من مطالب اليسار الوطني في بداية الاستقلال واليسار الراديكالي، من بعد، ألا وهو انتخاب “مجلس تأسيسي” … وهو مطلبٌ زمنيا متجاوز بالنسبة لدولة ما بعد الاستقلال عمرها 60 سنة، وسياسيا كلفته عالية، باعتبار أنه يضع الدولة برمتها موضع تشكيك، بل موضع تعريف جديد، ويضعف التجربة الدستورية برمتها! وهو نوع من الطعن في المبادرة الدستورية للملكية، التي تقود مشروعا إصلاحيا عالي السقف، ويحقّق نسبة مرتفعة من الإجماع حوله، ولا سيما بعد أن أنقذت البلاد من “الاستحالة السياسية” التي سقطت فيها دول أخرى قادتها إلى دوّامة العنف، في تسيير الربيع العربي.
لقد تحمّل الحقل السياسي المغربي مبادرات عديدة ذات سقفٍ مرتفع في مطالب التغيير، وهو يبدو حالياً مثل حقل سياسي غير مكتمل التركيبة، باعتبار وجود قوة سياسية من خارجه، لكنها تفرض نوعا من التفاعل مع الدولة ومركز القرار داخله، سواء من خلال تقديم عروض سياسية محدّدة أو من خلال التفاوض عبر الشارع، إذ ليس سرّا أن توتّرات اجتماعية كثيرة تُنسب إليها، بفعل دينامية أعضائها وهيكلتهم وانخراطهم في أشكال التعبير الموجودة أو الأخرى التي نجمت عن تهلهل الوسائط التقليدية، أحزابا ونقاباتٍ بسبب ضعف الالتزام السياسي أو “تبرجز” جزء من اليسار أو تآكل السياسة بشكل عام… أو بتولِّي الدولة أجندة الإصلاحات التي كانت التشكيلات المجتمعية تطالب بها!