“جرادة مالحة” بين “عالمية” إدريس الروخ و “محلية” الجمهور السينمائي المغربي و ” الصمت العاجز قليل الحيلة ” لنقاد مهرجانات العروض السينمائية !!! (بقلم البراق شادي عبد السلام)

” بورن آوت ” و إشكالية الإغتصاب في السينما :
التطبيع مع التوثيق الفني لمشاهد الإغتصاب يعتبر من الإشكاليات السينمائية التي تعاني منها السينما العالمية منذ بداياتها في شكلها التجاري أول مشهد إغتصاب في السينما إبتدأ مع التحفة الفنية الصامتة “ولادة أمة “The Birth of a Nation” (1915) الفيلم من إخراج وإنتاج ديفيد غريفيث وكتابة ديفيد غريفيث و فرانك وودز وتوماس فريدريك ديكسون عن رواية للأخير بعنوان «رجل الجماعة» نشرت عام 1905.

يتحدث الفيلم عن علاقة بين عائلتين أمريكيتين خلال الحرب الأهلية الأمريكية 1861-1865 لتتطور الأحداث إلى صراع يتخلله تباين في المواقف من الحرب .

الفيلم كان ثورياً في تقنيات التصوير والإخراج والمونتاج وطريقة رواية القصة ، يعتبر من أهم الأفلام في تاريخ السينما الأمريكية ، و من ناحية أخرى الفيلم خلق جدلا كبيرا في المجتمع الأمريكي بسبب طبيعته العنصرية التي تدعو لسيادة العنصر الأبيض و تمجيد جماعة كوكلوكس كلان و ممارساتها ضد الزنوج الأمريكان كالإستعباد و الإتجار في البشر و الإغتصاب .
إحتدم النقاش السينمائي حول إشكالية توثيق جريمة الإغتصاب مرة أخرى في فيلم ” ذهب مع الريح ” (1939) في مشهد إغتصاب ريت بتلر للأيقونة سكارليت أوهارا .ثم فيلم “أنا بصقت على قبرك”I Spit on Your Grave” 1978 كتابة وإخراج مئير زارشي و بطولة كاميل كيتون حيث يحكي الفيلم قصة الكاتبة الروائية “جينيفر هيلز” تقيم في مدينة نيويورك وتنتقم من كل من معذبيها بعد أن اغتصبها أربعة رجال.

مشهد آخر في فيلم ” السيدة 45 “من إخراج أبيل فيرارا و بطولة العظيمة زووي لاند ،يحكي الفيلم عن شابة تشتغل كخياطة تتعرض للإغتصاب مرتين في ليلة واحدة لتحمل مسدسا عيار 45 ملم و تقوم بإستهداف أي رجل تصادفه في شوارع نيويورك .
فيلم أوسكاري آخر تناول إشكالية الإغتصاب في فيلم ” التأثير المفاجئ ” Sudden Impact” بمشاركة الأسطورة كلينت

إيستوود و سوندرا لوك في الفيلم يتقمص فيه كلينت إستوود شخصية طبيب نفسي يتورط في عملية إغتصاب .
السينما العربية تناولت هي الأخرى موضوع الإغتصاب و لكن بطريقة محتشمة و ذكية في فيلم الأوسكاري”الحرام”إنتاج 1965 بطولة سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة من رواية أصلية للكاتب الكبير يوسف إدريس و إخراج الكبير هنري بركات .
السينما المغربية لم تخرج عن القاعدة المخرج حكيم نوري تناول الظاهرة من خلال فيلمه الجميل” الطفولة المغتصبة” إنتاج سنة 1994 الذي يحكي عن معاناة طفلة تشتغل كخادمة تتعرض للإغتصاب في قصة معقدة ..

السينما المغربية تناولت الظاهرة في أعمال أخرى كثيرة لن يتسع المجال للتفصيل فيها .
الملاحظ أنه في أغلب الأعمال المعروضة فشلت السينما أن تقدم شخصية امرأة مغتصبة إستطاعت أن تتعايش مع تجربة الإغتصاب، بالعكس فإن في أغلب الأفلام تعتبر حادثة الإغتصاب كعقدة سينمائية تترك ندوبا عميقة و جراحا كبيرة و تشوهات نفسية خطيرة على الضحية كمطاردة شبح المغتصب في حياتها اليومية سواء في حالة الخيال و فرض الواقع اليومي مما يؤدي إلى العديد من الإنكسارات الأسرية والنفسية التي نادرا ما يستطيع العلاج النفسي تداركها قد تؤدي إلى انحرافات سلوكية مدمرة كالإنتقام من جنس الرجال سواء ماديا أو معنويا و قد تصل إلى القتل أحيانا .

 

 

وعن التداعيات النفسية للجريمة علي الضحية فإنها تصل إلى التدمير النفسي الكامل للضحية وكراهية المحيط القريب و تشظي العواطف السامة داخل الروح و الجسد والرفض التام للحياة قد يتطور لحالات إنتحار، و الإنخراط بشكل غير واعي وراء سلوكيات إجرامية يغذيها عدم غفران المجتمع و رفضه لإعادة إدماجها في رحابه الواسعة. .

فيلم “بورن آوت ” الذي أكمل به نور الدين الخماري ثلاثيته التي بدأت مع فيلم كازا نيكرا 2008 و الزيرو 2012 حاول من خلاله المخرج أن يضيئ العتمة على العديد من البروفايلات البشرية لشخصيات بيضاوية حيث تناول سينوبسيس الفيلم عددا من الظواهر الإجتماعية التي إنتشرت في مجتمعنا، مثل العجز الجنسي،الإجهاض و الفساد الإداري وغياب القيم داخل مجتمع يؤمن بالإستهلاك .

بآداء مشترك بين سارة بيرليس و إدريس الروخ تناول الفيلم ظاهرة الإغتصاب في مشهد إعتبر صادما و خلق جدلا كبيرا في مواقع التواصل الإجتماعي .

و في جميع الأحوال لا يمكن الإنتقاص من القيمة الفنية للفيلم بسبب لقطة سينمائية غير واضحة المعنى أو بدون رؤية إخراجية أو لغرض في نفس المخرج .

الفيلم حقق نجاحات عالمية آخرها اختياره لتمثيل المغرب في فئة «جائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية» في حفل توزيع جوائز الأوسكار الحادي والتسعون.

▪️ إدريس الروخ : مثقف عضوي و فنان ولد البلاد :
في سنة 2017 مع فيلم ” بورن آوت “خاض إدريس الروخ مع المخرج نور الدين لخماري عباب بحر هائج في مغامرة فنية محفوفة المخاطر داخل غابة لا ضابط لها عنوانها مواقع التواصل الغير الإجتماعي حيث يصبح عرض الإنسان و حياته الخاصة مشاعا للجميع يرفسون فيها بتعليقاتهم البذيئة الجارحة و حيث يتحول الجميع بلا إستثناء إلى حراس للأخلاق و الآداب العامة .

 

 

مؤلم جدا أن ترى عملية السحل الجماعي في تعليقات غير مسؤولة لفنان كبير ينتمي لعائلة مثقفة طيبة الأصل من طرف من هب و دب من سكان الواقع الإفتراضي .

في الجانب الآخر من القصة الفنان العالمي إدريس الروخ ولد البلاد..ولد الشعب ..والمكناسي الأصيل.. الذي لن ينتظر من أي شخص أن يقدم له دروسا في تمغربيت.. هو على وعي جد متقدم بأن المجتمع المغربي المحافظ غير مستعد ولن يكون مستعدا في المنظور القريب و المتوسط لتقبل مشاهد “شبه إباحية” برؤية فنية تحت شعار معالجة إشكاليات مجتمعية كالإغتصاب أو التحرش !!

المجتمع المغربي كباقي المجتمعات في العالم يعيش يوميا مشاهد لأنواع متعددة للإغتصاب كإغتصاب الميزانيات في المجالس المنتخبة على شكل تعويضات سمينة و إغتصاب السياسة بإسم الدفاع عن الفقراء و المحرومين و إغتصاب الجيوب بالغلاء الفاحش و الزيادات غير مبررة للأثمان وإغتصاب العقل بالتفاهة و البوليميك السياسي الفارغ وإغتصاب الطالبات داخل المؤسسات الجامعية و إغتصاب العاملات في الحقول و في المصانع السرية و العلنية.

لكن أن تتجرأ و تعالج هذه المواضيع في قالب فني ..تلك هي المغامرة .. و تلك هي العقدة ..و ذلك هو المطب ..ذلك هو الفخ ..و أن تنجح في إيصال الرسالة دون أن توقظ الزومبي ذلك هو الفن ..

إدريس الروخ فنان بدرجة مثقف متعدد المواهب برع في تجسيد الأدوار التي يشتغل عليها ليتقمصها وأبدع في أدائه التمثيلي في كل مرة لتذوب شخصيته الحقيقية و يندمج آداؤه الفني لتنبعث في كل مرة شخصيات مختلفة بعيدة كل البعد عن إدريس و نمطيته اليومية .

شارك في عشرات الأعمال الدرامية طوال مسار مهني يتجاوز ثلاثين سنة، هو كاتب سينمائي متميز و مخرج بقدرات فنية عالمية ومؤلف مسرحي و تلفزيوني أخرج نحو 16 عملا تتوزع بين أفلام ومسلسلات بتجربة مسرحية غنية حيث شارك في وقت مبكر إلى جانب المسرحي العراقي الكبير جواد الأسدي بجولة بالسويد إستغرقت نصف السنة لمسرحية “الأنسة جولي” و شخص فيها إدريس الروخ بطريقة إحترافية جعل الصحافة السويدية تطلق عليه لقب أنطوني كوين المغرب، كما شارك في تجارب سينمائية عالمية مثل فيلم “بابل” و”المنطقة الخضراء”مع مات ديمون والمخرج بول كرينغراس، و”الوضعية” مع كوني نيلسون والمخرج فيليب هاس.

آخر نجاحاته المشرفة للمغرب و للسينما المغربية وليس آخرها هو جائزة أحسن إخراج في الدورة 37 لمهرجان الإسكندريةالسينمائي لدول حوض البحر المتوسط.

مجمل القول أنه لمن العَبَط لشخص ما أن يشكك أو يبخس أو يتطاول على التجربة الغنية و الفريدة و العالمية لإدريس الروخ ممثلا و مخرجا و كاتبا و مثقفا بروح نضالية إنسانية عميقة مرتبطة بشكل عضوي مع هموم الإنسان المغربي في كل مكان .

▪️جرادة مالحة : سوء الفهم الكبير :
عودة لفيلم “جرادة مالحة ” أعتقد جازما أنه من الظلم الكبير أن يتم التشويش على تحفة فنية بإختزال قصة الفيلم و ربطها مع مشهد أخطأ أو أصاب فيه إدريس الروخ تقدير الموقف في مشروع سينمائي آخر في سياق آخر برؤية إخراجية و سينمائية لمخرج آخر !!!

لا علاقة للمشهد المسرب من فيلم بورن آوت في وسائل التواصل الإجتماعي مع فيلم جرادة مالحة ..
جرادة مالحة يعيد التأسيس لنمط سينمائي غائب بشكل كبير في التجربة السينمائية المغربية وهو الدراما النفسية Psychological Drama التي تركز بشكل كبير على الحالة النفسية والعاطفية غير المستقرة للشخصيات و تتناول مواضيع مرتبطة بفقدان الإحساس بالواقع، الغموض الأخلاقي، والعلاقات المعذبة والمعقدة بين الشخصيات الوسواسية والمريضة، حيث تعتمد غالباً على عناصر من الغموض والدراما والرعب وبالأخص الرعب النفسي.

في فيلم جرادة مالحة إستطاع إدريس الروخ برؤية إخراجية هوليودية الإلقاء بالمشاهد إلى غياهب متاهة سيكولوجية تغوص في النفس البشرية محاولا سبر الذات الإنسانية و إخراج تحفة فنية إستطاعت التوغل بنجاح في أعماق مطمورات النفس البشرية وقيعانها، وثيقة سينمائية برسائل جد قوية حققت نجاحات متعددة في كل محطة فنية تصل إليها.

سينوبسيس الفيلم ينتاول بذكاء داخل تسلسل درامي تصاعدي بشكل مستمر قضايا مجتمعية كالعنف الزوجي و التحكم و الإستحواذ المفرط الذي يتحول لوسواس قهري يصل إلى الإيذاء النفسي و الجسدي و إلغاء شخصية الآخر لصالح الميكالومانيا المتعالية للطرف الآخر ،أحداث الفيلم تتشابك بشكل فني و درامي لتتركنا في لحظات ما مع شعور مرتبك بأننا نفتقر إلى شيء لفهم ما يحدث داخل القصة ..

إدريس الروخ في فيلم جرادة مالحة ينتصر لدور السينما في تفسير العالم و يؤكد أنه لا يمكن فصل النفس البشرية بتعقيداتها وما يدور حولها عن السينما ، فعلم النفس هو الدراسة العلمية لسلوك الإنسان ، وذلك بهدف التوصل إلى فهم هذا السلوك وتفسيره والتنبؤ به والتحكم فيه، بينما السينما هو التعبير الأصدق عن تلك السلوكيات والدوافع ومحاولة تقديمها بشكل واقعي.

▪️الناقد السينمائي “غائب ” حتى تمر العاصفة :
يوم قام إدريس الروخ و فريقه عمله بتقديم فيلم جرادة مالحة للجمهور العريض بسينما ميكاراما كقطعة فنية محاولا شرح العالم بطريقته الخاصة ..إنتهى دوره في القصة ..و إنتهت مهمته كفنان قرر أن يخوض المغامرة و يتحمل النتيجة ..
في نفس اليوم إبتدأ عمل حراس الفضيلة السينمائية من نقاد الفن السابع في بلدنا الجميل من أجل تفسير هذا العالم و ربط المشاهد بصناع الفيلم و تصحيح الرؤية الفنية و إعادة صياغة الأحداث بشكل أكثر وضوحا ..لكن ما لاحظناه هو الغياب الإعلامي حيث كانت السمة الغالبة على الحضور الهلامي هو الصمت الرهيب في حضرة مقطع مقتطع من مشروع سينمائي آخر بغية التشويش على النجاح المرتقب لجرادة مالحة ..

بطبيعة الحال لن ننساق مع نظرية المؤامرة و تحليلات شموس المعارف بأن الحدث كله مترابط في سبيل تحقيق ماركوتينغ إعلامي و بوز في وسائط التواصل الإجتماعي من أجل تسليط الضوء على جرادة مالحة ..

لكن في ظل إستقالة المثقف عن آداء دوره لتنوير المجتمع و إبتعاده عن رسالته الحقيقية في إعادة صياغة المفاهيم بطريقته و في ظل سقوط المعنى داخل الفراغ المتعمد ..و الهجمة الشرسة للتفاهة على كل شيئ و أي شيئ ..تطرح الإشكاليات نفسها مرة أخرى ..

هل سيتوعب الناقد السينمائي أن دوره كمثقف بوعي سينمائي هو تحصين و حماية دور الفنان في بناء المجتمع و البحث في تعقيدات سوء الفهم بينه و بين الجمهور و فك العقد الغير مفهومة بين الطرفين بلغة واضحة ليكون صلة وصل و رسالة مضمونة بين الطرفين ..كما عبر عنها الناقد العالمي جون ميشيل فرودون: “أن دور الناقد السينمائي توضيح كيف تساعد السينما البشر على سبر أغوار نفوسهم وحياتهم “.

اليوم ما نلاحظه بكل أسى أنه للأسف تُرِكَ إدريس الروخ وحيدا في صحراء قاحلة من السباب و الشتم في مواجهة مفتوحة ضد سيل جارف من الترهيب و التشهير و الإغتيال المعنوي .. بهدف واحد وحيد هو التشويش على فيلمه الجديد ودفع الجمهور (على قلته) لمقاطعته !!

إدريس الروخ اليوم يقدم تحفة فنية حقيقية و إضافة نوعية للريبرتوار السينمائي المغربي ويخوض تجربة سينمائية جديدة و فريدة كتابة و آداءا و إخراجا داخل حقل ألغام مفتوح في حرب غير متكافئة بين سيل التصورات النمطية و رغبة الفنان في تقديم فن سينمائي دون محاكم تفتيش فايسبوكية أو معتقلات إبداعية أو أي وصاية من أي جهة لا تعترف بالفن بشكل قطعي إلا من بوابة التحريم !!!
إلى متى سيستمر صمت الحملان هذا !!