تاريخيا في الأعراف الديبلوماسية للجمهورية الفرنسية الخامسة يكون المغرب الوجهة الخارجية أو المغاربية الأولى للرئيس الفرنسي المنتخب، وفي حالات قليلة يتم إختيار تونس كحل وسط في حالة إحتداد الموقف المغربي / الجزائري .
هذا الإختيار قد يؤشر على التوجهات المستقبلية للسياسة الفرنسية في ظل تباين الرؤى المغربية والجزائرية في مختلف القضايا الإقليمية أو الدولية .
إختيار الجزائر كأول وجهة مغاربية في الولاية الرئاسية الثانية
للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون له علاقة بإستراتيجية أمنية و عسكرية جديدة تبلورها باريس في إفريقيا بصفة عامة و بشكل خاص في منطقة الصحراء الإفريقية و الساحل و ذلك بسبب تراجع النفوذ الفرنسي وتصاعد المخاطر المرتبطة بتمدد الحركات الإرهابية و تصاعد موجات النزوح الجماعي نتيجة إنعدام الأمن و التغيرات المناخية وحالة اللايقين المرتبطة بتداعيات جائحة كو/رونا و فشل هذه الدول في اللحاق بجهود التعافي المبذولة .
من جانب آخر أضعفت الانقلابات العسكرية في مالي وتشاد
بوركينافاسو و غينيا تحالفات فرنسا في مستعمراتها السابقة حيث تميل النخبة العسكرية الحاكمة إلى الرضوخ للمطالب الشعبية بفك الإرتباط السياسي و الإقتصادي مع فرنسا ، كما أن ظهور لاعبين جدد كبار في لعبة الأمم بالمنطقة كروسيا و الصين و تركيا والمغرب أصبح يهدد المجال الحيوي الإفريقي لفرنسا الذي تشكل على أنقاض الإمبراطورية الإستعمارية الفرنسية السابقة وفق إتفاقات وتوافقات معينة تضمن المصالح الإقتصادية الفرنسية في مستعمراتها السابقة كعملة الفرنك الغرب أفريقي أو فرنك س ف أ غرب أفريقيا Franc CFA.
مؤخرا رغم توجه فرنسا و مجموعة من الدول الإفريقية الخاضعة للسلطة المالية لفرنسا لإقرار إصلاحات عميقة للفرنك الإفريقي بإحداث ثلاثة تغييرات كبرى بينها تغيير الإسم إلى ” عملة الإيكو ” ، والكف عن إيداع 50٪ من الإحتياطي النقدي لدى الخزانة الفرنسية و إنسحاب ممثلي فرنسا من ” المصرف المركزي لدول غرب أفريقيا” الذي يعتبر الهيئة المالية الحاكمة لثمانية من دول غرب افريقيا التي تشكل المجموعة الاقتصادية والنقدية لغرب أفريقيا.
الإستراتيجية الجديدة التي تريد باريس أن تعتمدها حسب موقع فرانس 24 تضمنت إعادة إنتشار إقليمية أو عملية إعادة تشكيل reconfiguration للقوات العسكرية الفرنسية العاملة بعملية
” برخان ” وتنفيذ إنسحاب لوجيستيكي إلى قواعد فرنسية بالنيجر بعد طلب رسمي من الحكومة المالية بإجلاء القوات الفرنسية حيث ستصبح النيجر مركزا للقوات الفرنسية في الصحراء الإفريقية و الساحل، بتمركز زهاء ألف جندي في إحدى القواعد الفرنسية بعاصمة النيجر نيامي مع طائرات مقاتلة ومسيرة وهليكوبتر.
في نفس السياق يضيف موقع فرانس 24 ، بأنه سيتم إرسال بين 300 و400 جندي للقيام بعمليات خاصة مع قوات من النيجر في المناطق الحدودية مع بوركينا ومالي ،وسيتمركز ما بين 700 و1000 جندي آخرين في تشاد مع عدد لم يكشف النقاب عنه من أفراد القوات الخاصة العاملة في أماكن أخرى بالمنطقة.
بالمقابل من المرتقب تقديم مساعدات فرنسية بقيمة 50 مليون يورو لتعزيز شبكة الكهرباء في النيجر بالإضافة لتدريب القوات النيجيرية على مكافحة الإرهاب و الجريمة المنظمة .
الزيارة المرتقبة يوم الخميس المقبل للرئيس الفرنسي ماكرون للجزائر و طبيعة الوفد المرافق له تنبئ بأن مصالح فرنسا و الجزائر تلتقي في نقاط محددة عنوانها تراجع إقليمي فرنسي و فشل جزائري في مساعيه لفرض أجندته البومدينية المرتكزة على الهيمنة الإقليمية، و كذا رغبة البلدين في تحقيق بعض الإنتصارات الديبلوماسية اللحظية خدمة لمصالح مرتبطة بالتحديات الداخلية لكلا البلدين .
يمكن ملاحظة مظاهر الفشل الجزائري و التراجع الفرنسي في ملف تحقيق السلام و مكافحة الإرهاب بدولة مالي :
● تراجع فرنسي بشكل عام في إفريقيا إبتدأ منذ سقوط نظام القذافي بليبيا في عهد نيكولا ساركوزي و ماتبعه من فوضى سلاح إقليمية نتيجة سيطرة الجماعات المسلحة على مخازن الجيش الليبي ثم التدخل الفرنسي في دولة مالي الذي يعتبر التتمة المنطقية للتدخل في ليبيا بعملية ” الهر الوحشي ” سرفال SERVAL في عهد فرونسوا هولاند بهدف القضاء التام على العناصر الإرهابية التي سيطرت على مناطق واسعة في شمال البلاد و أصبحت تهددالعاصمة باماكو و إنتهت بنصر مرحلي أبعدها عن المدن الكبرى شمال البلاد لتتمركز لاحقا في المناطق االصحراوية و الحدودية مع النيجر و الجزائر لتبدأ حرب عصابات أسقطت 59 عسكريا فرنسيا و المئات من الجنود الماليين و آلاف الجرحي بالإضافة لملايين المهجرين و اللاجئين .
تراجع تأكد اليوم في عهد إيمانويل ماكرون بإنسحاب فرنسي كلي لقوات “برخان” من مالي و إعادة إنتشار عسكري في النيجر و تشاد لصالح تواجد متصاعد و فاعل لعناصر الشركات الأمنية الروسية ( فاغنر ) بالعاصمة باماكو في ظل التوجه الجديد للحكومة و الجيش المالي بقيادة الكولونيل أسيمي غويتا .
● فشل جزائري : إبتدأ بتنصل كل الأطراف الفاعلة على الأرض في مالي من إتفاقية السلم و المصالحة ( إتفاق الجزائر 2015) التي تحاول الجزائر الإرتكاز عليها من أجل لعب دور وساطة ديبلوماسية بين كل الفرقاء كحكومة مالي المركزية والحركة العربية للأزواد، و التنسيقية من أجل شعب الأزواد، تنسيقية الحركات والجبهات القومية للمقاومة، و الحركة الوطنية لتحرير الأزواد، و المجلس الأعلى لتوحيد الأزواد، والحركة العربية للأزواد .
بالإضافة للفشل البنيوي العام الذي يصيب جهاز الديبلوماسية الجزائرية نتيجة تراكم ملفات الفساد و غياب رؤية إستراتيجية واضحة حيث أنها تحقق فشلا ذريعا في حربها المفتوحة ضد مصالح المغرب العليا و الأمن القومي المغربي خاصة بعد تأمين معبر الكركرات و نجاح نهج إستراتيجية ” ديبلوماسية القنصليات ” في فرض أمر واقع جيوسياسي جديد بالأقاليم الجنوبية (طرد مرتزقة البوليساريو من المنطقة العازلة – الموقف الأمريكي – مناورات الأسد الإفريقي بالصحراء المغربية – الموقف الإسباني /الألماني / الهولندي …) .
ثم فشل الخارجية الجزائرية في إدارة الأزمة الديبلوماسية المفتعلة مع مدريد على خلفية الموقف الإسباني من السيادة المغربية للأقاليم الجنوبية .
فشل ديبلوماسي سبقه فشل عسكري ذريع للجيش الجزائري في مواجهة الأخطار التي تواجه منطقة الساحل و الصحراء الإفريقية حيث للجزائر تجربة فاشلة في قيادة التدخل بالساحل من خلال لجنة الأركان العملياتية المشتركة (CEMOC) التي أُنشئت عام 2010 بهدف محاربة الإرهاب والتعاون الإستخباراتي بين دول الساحل الإفريقي و الجزائر ( موريتانيا – مالي – النيجر) التي تعتبرها بعض التقارير الصحفية مجرد قذيفة فارغة une coquille vide بسبب عدم فاعليتها في تقديم الدعم الإستخباري و الإسناد العملياتي و إعتبار لقاءات قادة أركان جيوش الدول المنضوية في مقر قيادة اللجنة بقاعدة عين تمنراست بالجزائر مجرد إجتماعات بروتكولية بدون فائدة ، تأكد الأمر أكثر في أزمة الرهائن بعين أمناس داخل العمق الجزائري يناير 2013 حيث قام متطرفون إسلامويون منشقون عن القاعدة بتيقنتورين 30 كم غرب عين أميناس في جنوب-شرق الجزائر، بإحتجاز أكثر من 650 شخصا من بينهم أكثر من 150 من الأجانب من جنسيات مختلفة، يعملون في منشأة نفطية .
الجزائر وفرنسا اليوم يبحثان على موطئ قدم لإعادة الدخول إلى منطقة الساحل و الصحراء الإفريقية عبر التوافق على ثلاثة ملفات موضوعة على طاولة المباحثات هي :
● ملف الذاكرة : أكيد ستحاول الجزائر كسب نقاط مع باريس من خلال تقديم تنازلات سياسية و سيادية أبرزها التراجع أو تأجيل المطالبة بالاعتذار عن الجرائم الفرنسية الاستعمارية، ملف التجارب النووية الفرنسية إذ تطالب الجزائر بالخرائط الدقيقة لأماكن تنفيذ التجارب وتعويضات للمتضررين منها، بينما ترفض باريس ذلك لحد الآن و المطالب بإستعادة الأرشيف الجزائري من باريس .
● الملف الثاني مرتبط بالغاز في ظل الحرب الأوكرانية الروسية والأزمة السياسية بين الجزائر وإسبانيا، خاصة أن الأخيرة هي التي توصل الغاز الجزائري إلى باريس عبر أنبوب ميدغاز.
ويسعى ماكرون لتأمين احتياجات أكبر لفرنسا وأوروبا من الغاز الجزائري لا سيما بعد إعطاء الإشارة لتعزيز شبكة الأنابيب بين فرنسا وإسبانيا، وذلك في مسعى أوروبي للتخلص من سيطرة روسيا الطاقية على المدَيَين المتوسط والبعيد.
● الملف الثالث مرتبط بالعلاقات الاقتصادية الثنائية حيث تتراجع بشكل كبير العلاقات الإقتصادية الفرنسية الجزائرية لصالح شركاء جدد كالصين وتركيا وإيطاليا و روسيا و ألمانيا .
قد تحاول الجزائر التأثير على فرنسا لتلعب دورا في حل أزمتها
المفتعلة مع إسبانيا للضغط عليها من أجل التراجع على موقف مدريد المنحاز للطرح المغربي العادل أو الإكتفاء بالحياد السلبي أو الموقف الضبابي .
و قد يقدم الجيش الجزائري على مغامرة عسكرية في الساحل بإسم محاربة الإرهاب والجماعات المتطرفة لتعويض الفراغ الذي ستتركه القوات الفرنسية في مالي خاصة بعد تعديل الدستور الجزائري و الذي أعطي الضوء الأخضر للجيش الجزائري للقيام بعمليات خارج الحدود .
في الجانب الأهم من القصة فإن الخطاب الملكي السامي ليوم 20 غشت 2022 بمناسبة الذكرى 69 لثورة الملك و الشعب قام بتسطير خط أحمر مغربي و أرسى قواعد إشتباك ديبلوماسية جديدة وتصور محدد واضح للعلاقات المغربية مع العالم وفق منظور سياسي جديد، حيث دعا بشكل واضح و مسؤول في رسالة إلى جميع الشركاء التقليديين و الجدد و المحتملين بأن المغرب يعتبر موقف أي دولة من السيادة المغربية للأقاليم الجنوبية هو منظار قياس الصدق مع المغرب. و بشكل خاص العلاقات الفرنسية المغربية حيث أصبحت باريس بإعتبارها شريكا تقليديا موثوقا مطالبة أكثر من أي وقت مضى من طرف الرباط بتقديم موقف فرنسي صريح و غير قابل للتأويل في مايخص السيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية .موقف يرتكز على العلاقات التاريخية العريقة بين المغرب و فرنسا و يحترم التاريخ المشترك بين الشعبين العريقين .
فرنسا مطالبة اليوم بدعم سياسي صريح للموقف المغربي العادل المستند للمواثيق الدولية ولمخرجات قرارات مجلس الأمن و الأمم المتحدة حيث أنها تدعو في كل قراراتها لحل سياسي واقعي قابل للتنزيل على أرض الواقع يحترم السيادة المغربية .
موقف لا علاقة له بالإستراتيجيات الجيوسياسية الفرنسية المزمع تنزيلها في منطقة الصحراء الكبرى أو الساحل و لا يخضع لموازين القوى الداخلية في الميتروبول و عابر للحظات الإنتخابية في فرنسا و غير معني بالتوازنات الإقليمية في غرب المتوسط و الساحل الإفريقي و لا علاقة له بالتوجهات المرحلية للديبلوماسية الفرنسية .
الشراكة الإستراتيجية في إطار محور الرباط / باريس طوال ستة عقود ظلت صمام أمان للأمن الإقليمي في شمال إفريقيا ،كما أن مواقف فرنسا التقليدية و التاريخية في قضية الصحراء كانت دائما إلى جانب القضية العادلة للوحدة الترابية وتكرس السيادة المغربية في إحترام تام للمواثيق الدولية .
اليوم المملكة المغربية في ظل تعنت باقي الأطراف و رفضها لمقترح الحكم الذاتي بإعتباره الأساس الأكثر جدية و واقعية
و مصداقية من أجل تسوية الخلاف بحل سياسي نهائي ، فإننا على مرمى حجر من الحسم السياسي من جانب واحد لملف الوحدة الترابية ينتهي بطرد البوليساريو من كل المحافل الدولية و تصنيفها جماعة إرهابية و يبتدأ بعزل و تطويق ميليشيا البوليساريو الإرهابية قاريا و دوليا تمهيدا لإستئصالها سياسيا كورم خبيث و هذا لن يتحقق في المنظور القريب إلا بمساندة الشركاء التقليديين و الجدد للمغرب بدعمهم الواضح و الصريح الغير قابل للتأويل للسيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية .
التوافق الفرنسي الجزائري لن يكون في أية حال من الأحوال على حساب السيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية و المصالح العليا للمغرب الذي يرتكز في الدفاع على هذه المصالح بإعتباره حليفا تقليديا ثابتا بالنسبة لفرنسا في القارة الأفريقية، حيث تستقر به أكبر جالية فرنسية في الخارج 70 ألف فرنسي ، وتحظى الشركات الفرنسية (أكثر من ألف شركة) بأفضلية كبيرة في السوق المغربية ولاسيما في القطاعات الأكثر حيوية في الاقتصاد المغربي، ويأتي المغرب ضمن الوجهات السياحية المفضلة لدى الفرنسيين، بعد إسبانيا واليونان وجزر موريس (المحيط الهندي).
كما أن للمغرب مكانة خاصة بفرنسا حيث يتواجد بها أكبر تجمع مغربي في الخارج (1,5 مليون مغربي ) و يزروها سنويا أكثر من 300 ألف مغربي للسياحة و أغراض أخرى .
حيث تصدّر المغرب قائمة أكبر الشركاء التجاريين مع فرنسا مع دول شمال إفريقيا و الشرق الأوسط خلال عام 2021، حيث بلغت صادرات فرنسا إلى المغرب 6.9 مليار دولار، بينما استوردت فرنسا من البلاد 6.7 مليار دولار.
كل هذه المعطيات تشكل مداخل مهمة في التأثير المتبادل للبلدين على القرار السياسي، فكما لدى فرنسا شبكات نفوذ تقليدية واسعة داخل النخب السياسية والفكرية المغربية، إستطاع المغرب أن يطور مراكز نفوذ وجماعات ضغط مؤثرة في السياسة الفرنسية و في المستقبل القريب سيلعب ” مغاربة فرنسا ” دورا مهما في لعبة التوازن الفرنسية / المغربية .