إن الدول – التي تعاقبت على حكم المغرب وفي ظل الإسلام – جعلت من الفكر الصوفي أساسا للتعبير عن الوحدانية، ودعما لفكرة التوحيد الذي نادت به جل الدول المتعاقبة؛ كالموحدين والمرنيين والسعديين والعلويين. ودعم الزوايا ورجال التصوف المادي والمعنوي كان اعترافا بما لهم من أياد بيضاء على الدفاع عن حرمة الوطن والحفاظ عليه وتوحيده.
وبما أن المغرب كان تابعا للشرق في هذا المجال كسواه من المجالات الثقافية والاجتماعية متأثرا به بمستوى تأثره بمنطقة الأندلس، فقد قام بإدخال الآلات الموسيقية على هذه الأذكار والأناشيد الدينية فكانت الزوايا عبر ربوع المغرب بمنزلة معاهد موسيقية بشكل غير مباشر تحافظ على جل الأنغام والمقامات الشرقية والأندلسية وكذلك الخماسية الأمازيغية.
وقد عرفت هذه الزوايا نفوذا روحيا تجاوز حدود المنطقة إلى مختلف أقاليم الشمال الإفريقي بل وحتى مصر حيث الزوايا متأثرة بالطرق المغربية وهذه الزوايا هي : ” زاوية حي المخفية : بفاس وزاوية العيون بتطوان أسسهما معا الشيخ ابو المحاسن يوسف الفاسي المتوفى سنة 1013هـ / زاوية حي القلقليين بفاس أسسها عبد الرحمان بن محمد الفاسي المدعو بالعارف توفي سنة 1045هـ / زاوية تامكروت بدرعة جنوب المغرب أسسها عمرو بن احمد الأنصاري 983هـ / الزاوية الدلائية أسسها ابو بكر بن محمد الدلائي أواخر القرن العاشر الهجري”.
أما بالنسبة للغناء الصوفي فقد أدركت جميع مشايخ الزوايا ما للموسيقى من سحر في النفوس وتأثير على الطبائع وما تثيره من سرعة في بلوغ كنه النفوس وأفسحوا المجال واسعا للألحان الشجية والأغاني المرقصية ترافقها أحيانا آلات موسيقية على اختلاف أنواعها فقد قال اليوسي وهو يتحدث عن المريد الذي يتعاطى السماع : “وقد يكون ممكنا يريد تدريج غيره”.
ومن الأسباب التي مكنت الموسيقى والغناء من الولوج إلى رحاب التصوف المغربي التأثير الخارجي، يقول مؤرخ تطوان محمد داود: “أما الذكر في الأسواق والرقص والسماع فلا يعرف فيما قبل مولاي العربي الدرقاوي المتوفي سنة 1239هـ الذي من أشياخه السادة الفاسيون وهذه الطريقة وقع فيها تقليد المشارقة كما أن أصحاب الشيخ سيدي محمد بن عيسى أخذوا الشطح عن الرفاعية المصرية ومنها أخذت البيارق والأعلام والطبول والمزامير”.
موقف رجال التصوف المتسامح والمشجع للسماع : قال المنجور: “التصوف هو تخلية القلب عن غير الله وتحليته بذكر الله فيحلق في أجواء الطهر والنقاء” ، كذلك مداومة الزاوية الدلائية على عهد شيخها محمد بن أبي بكر على إنشاد البردة والهمزية للإمام البوصيري كما عرف عن الشيخ الإكثار من السماع في آخر حياته فكاتبه شيخه أحمد بن القاضي قائلا: “عهدتك ما تصبو وفيك شبيبة فما لك بعد الشيب أصبحت صابيا”، فأجابه الدلائي : ” نعم لاح برق الحسن فاختطف الحشا فلبيته من بعد ما كنت أبيا”.
– تساهل الفقهاء ورجال الدين.
– التقاء الطبقات الشعبية على تباين مستوياتها بهذه الزوايا.
– سقوط الأندلس وتلاشي الحكم بالمغرب جعل من هذه الزوايا جسرا واصلا.
– الماضي بالحاضر فكانت خير من حافظ على الثراء الموسيقي المغربي.
هذا بالنسبة للموسيقى الدينية والروحية في علاقتها بالشأن الديني وبخاصة المرتبط بالتصوف، أما بالنسبة للأنواع الموسيقية التي نشأت داخل الفكر الإسلامي المغربي، والتي اهتمت إلى جانب الشأن الديني بالشأن الدنيوي نورد نموذج فن الملحون باعتباره فنا صارخا اهتم بالحياة الاجتماعية بكل تلاوينها.
يعتبر شعر الملحون من أهم الأشكال الشعرية التي عرفها المغاربة منذ ق15م الفترة التي بدأت فيها الشخصية والهوية المغربية تتشكل ملامحها وتتضح معالمها. ونظرا لما اضطلع به الدين الإسلامي من دور مهم ومهيمن في تشكيل تلك الهوية، فقد كان للزوايا الدور الرئيسي في تعبئة الناس وتكوينهم على جميع الأصعدة السياسية والاجتماعية، ونخص بالذكر هنا الناحية الموسيقية التي اهتمت بها الزوايا أشد الاهتمام حيث استعملتها أداة شديدة الضرورة من أجل تزيين النصوص المختلفة وتلاوة الأذكار الجماعية، بل أحيانا تأخذ نصيب الأسد فتصير صحبة رقصات معينة وسيلة أساسية للتعبد والوصول إلى الله عز وجل.
ولما تعاقبت الدول على المغرب رافعة دائما راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ظلت الزوايا محافظة على جل الأنغام الموسيقية المغربية متسترة وراء الأمداح والأذكار .
وإذا كان الأستاذ “منير بصكري” في أطروحته التي موضوعها “الخطاب الصوفي في الملحون” يذهب إلى أن الزوايا أثرت على هذا الفن، فإنني أذهب عكس مذهبه حيث أرى أن هذا الفن هو مولود من رحم الزوايا، فأغلب قصائده إن لم نقل كلها لم تخرج عن القرآن والسنة في استنباط الصيغ والصور والأحكام وإسداء النصيحة وحب الجمال وحب الله والرسول صلى الله عليه وسلم.
نعم إن كلمة الله واسم رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل بيته اعتبرت في فن الملحون أسماء مقدسة تكاد لا تخلو قصيدة من قصائده اللامحدودة منها حيث يسمى ناس الملحون فنهم “بالبحر” الذي لا حدود له، لا يخلو من ذكر لله و صلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وتمجيد للشرفاء أهل البيت.