غالبا ما كانت العلاقة بين القضاء الذي يمثل إحدىالسلطات الثلاث والاعلام الذي يوصف دوما بالسلطة الرابعة، تتميز أحيانا سوء الفهم المتبادل وبأحيانا أخرى بنوع من التشنج والتوتر وهذه خاصية تسم بها غالبية المجتمعات بعض النظر عن مستوى تطورها، وذلك يعود على ما يبدو إلى التوجس القائم بين سلطة القضاء ووسائل الإعلام .
ليس الغرض تشخيص الوضعية الراهنة لمستوى العلاقات القائمة بين الطرفين، أو البحث عن من يتحمل المسؤولية والمسببات الكامنة وراء هذا التوتر المزمن، لكن الهدف محاولة تلمس السبل الكفيلة بتوطيد علاقات صحية وسليمة بين سلطتين، أناط بهما دستور 2011 مهام جسيمة.
بيد أن إعداد أول مخطط استراتيجي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية برسم 2021 -2026 قد تضمن عدة إجراءات مهمة في مجال الاعلام والتواصل منها الالتزام بالانفتاح على وسائل الاعلام والرأي العام الوطنيواعتبار أن الإعلام يلعب دورا كبيرا في نقل المعلومة ونشرها وتنوير الرأي العام. وبصفة عامة يشكل المخطط خارطة طريق وبرنامج عمل يحدد أولويات الإشتغال وكيفيات وطرق التنفيذ، وذلك في اطار اضطلاع القضاء بدوره في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد والقيام بمهامه الأخرى خاصة منها حماية الحقوق والحريات، وترسيخ الديمقراطية والحكامة الجيدة .
وعلى الرغم من كون أية استراتيجية تظل مرتبطة بمدى قناعة ودينامية وكفاءة الجماعة أو الفرد من الذين يسهرون على تنفيذها، فإن مبادرة اطلاق البرنامج المعلوماتي المتعلق بنشر الاجتهاد القضائي لمحكمة النقض على الموقع الإلكتروني بمناسبة افتتاح السنة القضائية الجديدة 2022 في السادس والعشرين من يناير الجاري، تعد خطوة متقدمة في مجال توفير المعلومات والتواصل ليس فقط مع المرتفقين ووسائل الإعلام ولكن مع الرأي العام.
نشر الاجتهاد القضائي وانفتاح على الاعلام
وأوضح محمد عبد النبوي الرئيس الأول لمحكمة النقض الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في مقدمة هذا المخططـ، أن هذا الإجراء يهدف إلى توفير الاجتهاد القضائي للجميع وبالمجان، باعتباره إطاراً لتحقيق الأمن القضائي وتعميم اتجاهات محكمة النقضمع نشر قرارات المجلس الأعلى للسلطة القضائية في المادة التأديبية عبر الإطار الرقمي المخصص للقضاة بموقع المجلس، بهدف المساهمة في تأطير سلوك القضاة والتزامهم بالأخلاقيات المهنية وتنبيههم إلى الإخلالات المهنية .
ولأهمية المعلومة في المجال القضائي بالنسبة للرأي العام، تعتمد استراتيجية المجلس على الانفتاح على وسائل الاعلام الوطنية والدولية لضمان نقل ونشر المعلومة الصحيحة وتنوير الرأي العام بكل شفافية وصدق ووضوح، وهو ما سيتم عبر اجرائين إثنين تتمثلان في بناء علاقة منظمة مع وسائل الإعلام تهدف إلى دعم الحق في المعلومة للرأي العام في القضايا التي تستأثر باهتمام وتكوين ناطقين رسمين باسم المحاكم لتوفير الحق في المعلومة للرأي العام بشكل مقبول.
كما ترتكز استراتيجية المجلس على دعم تخليق القضاء وتقوية مناعته الداخلية لحفاظ على استقلاله وحياد أعضائه وتجردهم والتزامهم بمبادئ العدالة وأخلاق القضاء المنصوص عليها في مدونة الأخلاقيات القضائية والمتعارف عليها كذلك كأعراف وتقاليد.
نحو إرساء المزيد من التقة
وعلى الرغم مما يسجل من محاولات من قبل القضاء والاعلام لتجسير العلاقات بينهما وما يسجل مؤخرا من حضور ملحوظ لفعاليات قضائية في وسائل الاعلام،فإن الأمر يتطلب مع ذلك الارتقاء بذلك الى درجة أفضل في قادم الأيام، وذلك من خلال البحث عن السبل الكفيلة بإرساء المزيد الثقة والتعاون بين السلطتين وفي مقدمتها إزالة “سوء الفهم الكبير” بين الطرفين.
وفي هذا السياق يظل فتح نقاش عمومي حول العلاقة بين القضاء والإعلام يكتسى أهمية كبرى باعتبارهما سلطتين حيويتين تقاسمان عددا من المبادئ المشتركة، كالاستقلالية والحياد والتجرد والتقصى والبحث من أجل الكشف عن الحقيقة مع اشتغالهما معا في ظل سياق يتميز بتحولات متسارعة فاقمتها الثورة الرقمية التي حولت الإعلام من سلطة رابعة الى سلطة أولى، وإن كان بوظائف جديدة، تفوق السلطات التقليدية الثلاث في كثير من الأحيان .
وإن كان ما يروج في وسائل الإعلام والاتصال على الأداء القضائي وسير العدالة، من المؤكد يكون له من انعكاس ليس فقط على تكوين قناعة القضاة لدى النظر في القضايا والتي يبت فيها، ولكن أيضا بتشكيل رؤيته وموقفه القانوني لدور الصحافة والصحافيين، على الرغم من أن هذا الأمر يختلف من قاض إلى آخر، وكذلك من صحافي إلى آخر لعدة اعتبارات منها، شخصية كل القاضي والصحافي ومستوى تكوينهماوثقافتهما وتجردهما ونزاهتهما واستقلاليتهما كذلك.
سبل تجاوز سوء الفهم
إلا أنه على الرغم من حالات التوتر بين القضاء والإعلامخلال بعض الفترات، فإنه في ظل المتغيرات الجارية أصبحت الحاجة ماسة لتحقيق التكامل والتعاون بين السلطتين، عبر البحث عن السبل الكفيلة بالانتقال من مرحلة “سوء الفهم الكبير”، الى فتح أفق جديد قوامه الأساس التكامل، وخلق فضاءات للتواصل وتبادل الرأي ووجهات النظر وتقريبها، في ظل الاستقلالية والاحترام المتبادل. فهذا من شأنه المساهمة بطريقة أو أخرى في بناء مزيد من الثقة بين سلطة القضاء وسلطة الإعلام، كما سيمكن ذلك من تعزيز صدقية الأحكام القضائية من جهة وتطوير مواكبة الصحافة للشأن القضائي بصورة مهنية وبالتزام بأخلاقيات الصحافة.
بيد أن ذلك يقتضى مراعاة الاختلاف القائم بين طبيعة كل من القضاء والإعلام، إذ أن القضاء وإن كان من مهامه الإلتزام بقواعد السرية والتحفظ، فإن من وظائف الإعلام تعميم الأخبار ونشر المعطيات والعمومية والحرية الرئة التي تتنفس بها الصحافة باعتبارهاسلطة رقابة مجتمعية.
وإذا كان القضاء يخضع لعدد من القواعد منها التكتم لحماية سرية الأبحاث والتحقيقات، احتراما لقرينة البراءة، وحتى يتمكن القاضي من تكوين قناعته، بغض النظر عن عامل الوقت للبت في قضايا المعروضة عليه، في المقابل يشتغل الإعلام وفق مقاربات مغايرة في مقدمتها السرعة تحقيقا للسبق الصحفي، الذى يعد من بين أبرز شروط ممارسة الصحافة والإعلام.
الارتقاء بمستوى الثقافة الإعلامية والقضائية
وهكذا سيكون من المفيد إدراج مادة الصحافة والإعلام في المقررات الدراسية للمعهد العالي للقضاء وفي المقابل الارتقاء بمستوى التكوين الصحفي في ميدان قضايا المحاكم والشؤون القضائية بالمعهد العالي للإعلام والاتصال وتشجيع البحث العلمي وتوسيع دائرة الغرف المتخصصة بالمحاكم حول قضايا الإعلام مع البحث في الآليات الكفيلة بتوفير المعلومات القانونية، وذلك تجنبا للأخبار والمعلومات الزائفة.
كما يتطلب الأمر المساهمة تحديث التشريعات لتواكب مستجدات العصر وملاءمتها مع الالتزامات الدولية للمغرب خاصة ما يتعلق منها ذات الصلة بالديمقراطية وحقوق الإنسان فضلا عن تطوير العدالة الجنائية لجعلها تحقق الملاءمة المثلى بين واجب صيانة الحقوق والحريات وبين هاجس الحفاظ على قيم وركائز المجتمع مع تطوير الإدارة القضائية والارتقاء بمستوى المعرفة والثقافة الإعلامية لضمان تواصل قضائي فعال.
وتجدر الإشارة إلى أن المخطط الإستراتيجي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية يرمى بالخصوص إلى تحديد الدور الذي يتعين أن يقوم به المجلس في مجال مساهمة القضاء في برامج اصلاح منظومة العدالة خلال الفترة القادمة سواء فيما يتعلق بتدبير وضعية القضاء أو تدبير الشأن القضائي أو في باقي مجالات منظومة العدالة.ويتبني المجلس في هذا الصدد مقاربة تشاركية مندمجة تسعى الى تخليق القضاء والرفع من قدرات القضاة والزيادة من منسوب نجاعة أدائهم وتقوية الملكات القانونية والحقوقية لديهم علاوة على تأطير سلوكهم وفقا لمقتضيات الدستور وأخلاقيات المهنة ومبادئ العدالة ودعم نزاهتهم واستقلالهم. وحيادهم وتجردهم. وتقوية مناعتهم للتمسك بهذه القيم، وهو ما سيسهم في زيادة ثقة المواطنين بالقضاء.