الرأي والشجاعة لدى المثقف (بقلم ذ. ابراهيم زرقاني)

أتذكر البيت الشعري للمتنبي حين قال ذات يوم:

الرَأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُجعانِ     هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ المَحَلُّ الثان 

لكن في الوقت الحاضر ما محل الاعراب لهاذين القطبين، الرأي والشجاعة لدى المثقف. هل هناك من له الشجاعة أن يعلن موت المثقف في صيغته القديمة والتي كان يشكل في قلبها الوعي النابض والعين المتبصرة. ها هو الان يتوارى عن الأنظار ويأخذ شكل قلعة قديمة تخلى عنها كل الجنود اليقظون بعدما أخد منهم الكبر عتيا وصدئت أسلحتهم. انها صورة مرعبة وقاتمة. لكن المثقف لن يموت، انه أشبه بطائر الفنيق. عليه أن يتجدد وأن يتنفس هواء الحاضر بملء رئتيه ولو كان هواء فاسدا. ليس الأمر قدريا، ولكن المثقف لابد له من هذا المصير التراجيدي كي يلعب دوره الحقيقي في ساحة حرب لا تنتهي. المثقف ليس مهنة للترف الفكري، بل انصهار مهول في قلب الأسئلة المصيرية التي من شأنها أن تضع الانسان في مقام العدالة القصوى. 

لم يعد الزمن في صالح المثقف. السرعة المهولة للأحداث والكم الهائل للمعلومات التي تتدفق كسيل يجرف كل شيء معه. لم يعد الوقت كافيا للتأمل وأخد الوقت الكافي للتحليل والتمحيص. الأحداث تبث عبر كل قنوات التواصل العديدة، ويتم تحليلها بسرعة البرق من فصيلة جديدة من المحللين الذين ينتجون الكلام الفارغ ويقرعون طبول حرب فكرية تموت مع غروب شمس اليوم. 

كيف يمكن لهذا المثقف أن يستقصي الأحداث ويقوم بقراءة متأنية وسط كل هذا الضجيج. كيف يمكن له أن ينتج أفكاره وفي الجهة الأخرى التحق ركب كبير من الناس وتحلقوا حول ما يسمى الان “بالمؤثرين”، هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم العارفين بشأن الإنسانية والذين يقترحون كل الحلول الممكنة ليصبح الانسان في وضع أحسن. 

أصبح الان من اللازم أن يتحول المثقف الى مصارع معاصر لكل هاته المظاهر التي طمست وجوده. عليه أن يكون حاضرا بسرعة البديهة ومزاحما كل هاته الوجوه في الساحة العامة لكل أشكال التواصل، وأن تخلق جبهة حقيقية لكل المثقفين الذين خبروا إيقاع اليوم وتغلغلوا في مسارب هاته التكنلوجيا. انها حرب شرسة لا نضمن فيها انتصارا، ولكن من اجل رد الاعتبار لكل ما هو جميل في هاته الحياة من احترام ومحبة لكل ما يوقد نار المعرفة الحقة ويرفع الوعي ويبعث ذلك الانسان الذي نفق في دواخلنا. 

لابد للمثقف أن يتخلى عن عزلته، فما أحوجنا ليقظته التي ستكون سدا منيعا للجهل الذي يطوقنا من كل جانب.