
بقلم: زكية لعروسي

يقول المثل العربي: “ما كاينش شي دخان بلا نار”، ومتى ما رأيت الغبار ارتفع، فاعلم أن تحت أقدامه خيولا تعدو، لا رياحا تمر. فهل ما يقال اليوم عن الجزائر من طرف جيرانها في الساحل هو مجرد زوبعة في فنجان؟ أم أن هناك في دهاليز المخابر ودهاليز النيات ما يفسّر هذا التصدع السياسي العميق؟
مالي، النيجر، بوركينا فاسو… هذه الدول الثلاث، التي لم تعد تخفي استياءها من الجارة الشمالية، أصبحت تتحدث بلسان واحد، ولسان غاضب. فهي تتهم الجزائر لا فقط بالتقصير، بل بالتواطؤ، بالتغاضي، وبالدعم الضمني وربما المباشر لجماعات تحمل السلاح وتحصد الأرواح.
فهل يعقل أن تتفق ثلاث دول، بثلاث لهجات عسكرية، على رواية واحدة، من دون أن يكون هناك أثرٌ للرماد تحت العتبة؟ “لو ما فيهاش ريحة، ما يجيش عليها الذباب”، كما تقول امي خيرة.
هكذا تبدو الجزائر اليوم في عين العاصفة التي تضرب منطقة الساحل، إذ تتعامل مع النزيف الأمني في جوارها الجنوبي بـ”برود دبلوماسي” و”ارتباك أخلاقي” يكاد يتحوّل إلى سلوك غير مسؤول على مستوى الدولة.
آخر فصول هذا التدهور الخطير كان إسقاط طائرة مسيّرة تابعة للجيش المالي من قبل الدفاع الجوي الجزائري، في حادثة صُنفت من طرف باماكو على أنها “عدوان مباشر”، وُصف بأنه غير مسبوق في تاريخ العلاقات بين البلدين. ولم يكن ردّ فعل مالي عاديا: استدعاء السفير، الانسحاب من CEMOC، ورفع الملف إلى الهيئات الدولية.
هذا القرار المالي لم يكن انفعالا لحظيا، بل هو نقطة التقاء لخط زمني طويل من الشكوك والتراكمات والتجارب المريرة. فالجزائر، التي طالما قدّمت نفسها كـ”ضامن للسلام” و”وسيط تاريخي” في أزمة الشمال المالي، باتت اليوم، في نظر العواصم الثلاث (باماكو، واغادوغو، نيامي)، طرفا متورطا، إن لم يكن متواطئا.
فكيف تصبح الجارة من راعية سلام إلى مشتبَه بها؟
في 2015، كانت الجزائر راعية اتفاق السلم في مالي، اتفاق وصف حينها بـ”المنقذ”، لكن المنقذ انقلب منقلبا، وأصبحت الوثيقة حبرا على ورق، بل عذرا لفراغ أمنيّ مريب.
الجزائر اليوم لم تعد ذلك الوسيط الحيادي، بل أصبحت في أعين الجيران “دولة تتكلم عن السلام وتحتضن من يخربه”. فكيف يعقل أن تقطع رؤوس جنود ماليين، بينما معسكرات بعض القتلة تحظى بالهدوء على الضفة الأخرى؟ أهو صدفة أن تأتي الطعنات من جهة واحدة كل مرة؟ أم هو كما يقول المثل: “اللِّي ما يشوفش من الغربال، أعمى.”
إن الدبلوماسية هي التي بالنّفَس الطويل لا بالتسلل الخفي. فإن دول الساحل تتهم الجزائر باعتماد دبلوماسية مزدوجة: في العلن، أحاديث عن دعم الاستقرار، وفي الخفاء، غضّ الطرف، أو أكثر عن حركات تمرد وعبور مسلحين عبر حدود لا تمسَك ولا تراقَب. أليس هذا نموذجا من “من يصبّ الزيت على النار ثم يلوم اللهيب”؟
قرار مالي بالانسحاب من هيئة التنسيق العسكري (CEMOC) كان بمثابة إشهار طلاق دبلوماسي، لا مجرد خلاف طارئ. فمن ينسحب من تحالف، إن لم يكن شعر أن التحالف صار خنجرا في الخاصرة، لا درعا على الجبهة؟
“الدّار اللي ما تحميك، ما تبكيش على خرابها.” هكذا ترى مالي اليوم العلاقة بالجزائر: سقف لا يصد المطر، وأخ لا يمنع الخنجر. لكن ما يصفه مراقبون بأنه ارتباك في سياسة الجزائر تجاه الساحل، تراه جيوش الجيران خيانة مقنَّعة. بلغة السياسة: الجزائر تمسك العصا من الوسط. بلغة الشارع: “تلعب على الحبلين، وتظن أن الحبل ما يتقطعش.”
منذ 2020، اختارت مالي قلب الطاولة على اللاعبين التقليديين: فرنسا، الأمم المتحدة، والآن الجزائر. صعود تحالف الـAES (مالي، النيجر، بوركينا فاسو) شكّل ضربة لمشروع “المراقبة الناعمة” التي كانت تمارسه الجزائر باسم محاربة الإرهاب.
هذا التحالف الإقليمي الجديد لا يرى في الجزائر شريكا مخلصا، بل عائقا على حدود الاستقلالية الأمنية. ولعل سقوط اتفاق السلام الجزائري في بداية 2024، لم يكن مجرد فشل مسار بل إعلان موت لمشروع دبلوماسي جرى استثماره لسنوات دون نتائج على الأرض.
الجزائر الرسمية ما تزال، حتى كتابة هذه السطور يا قارئي، تلوذ بالصمت أو بالردود الباهتة، رغم خطورة الاتهامات، ووضوح البيانات الصادرة عن مالي. كيف تفسر الجزائر، مثلا إسقاط طائرة مسيّرة على بعد نحو 10 كلم داخل الأراضي المالية؟ ما المبرر القانوني، أو الأخلاقي، أو الأمني، لهذا التصرف الذي يبدو – حسب التحقيقات المالية الأولية – مخططا ومقصودا؟
غياب الشفافية، التحفظ عن تقديم المعطيات الرادارية، رفض التعاون الفني في التحقيق، كلها مؤشرات تدفع المراقب للقول بأن الجزائر تفقد تدريجيا رصيدها الدبلوماسي في المنطقة، وتتحول إلى دولة تدير الفوضى بصمت، بدل أن تحاربها بصراحة. ففي نظر العديد من المحللين، ما تقوم به الجزائر حيال مالي ليس مجرد تخبط دبلوماسي، بل أقرب إلى سلوك محسوب بدقة، هدفه الحفاظ على معادلة عدم الاستقرار المُسيطَر عليه.
فالجزائر، المتوجسة دوما من وحدة وتماسك الجنوب الصحراوي، لا تنظر بعين الرضا إلى أي اندماج أمني سيادي بين دول الساحل خارج مظلتها، خصوصا إذا كان هذا التكتل يتقاطع استراتيجيا مع نفوذ قوى مثل روسيا، أو يتحدى أدوات الجزائر في الملف التوارغي الحدودي.
أمام هذه المعادلة، يبدو أن الاستراتيجية الجزائرية تقوم على إضعاف الجيران دون أن تبدو فاعلا مباشرا في الفوضى. لكن اليوم، الأقنعة تسقط، والاتهامات لم تعد تُهمس خلف الأبواب المغلقة. وهنا، ترتفع الأسئلة:
– هل الجزائر عاجزة عن كبح النشاط المسلح العابر لحدودها؟
– أم أنها تغض الطرف، لأن الفوضى في الجوار تمنحها أوراقا إقليمية إضافية؟
– وهل فعلا هناك “أذرع خفية” داخل الدولة الجزائرية لها حسابات غير معلنة في الصحراء الكبرى؟
يقول المثل: “إذا تحدث ثلاثة عن الذئب، فابحث عن الأثر.” وها قد تحدثت مالي، النيجر، وبوركينا فاسو، فهل نكذّب آثار أقدام الذئب حين تمرّ في الرمل، وتخلف الحريق خلفها؟ الجزائر اليوم أمام لحظة حقيقة. إما أن تنفض الغبار عن نياتها وتثبت لجيرانها أنها شريك لا خصم، أو أن تستمر في لعب دور الغامض المتعالي، فتخسر ما تبقى من جيرة وثقة. “اللي ما يشدك وقت الشدة، ما تنشدّ له وقت الفرج.” وجيران الجنوب، يبدو أنهم قرروا أن “يحزموا أمرهم بأنفسهم، ولو كلفهم ذلك الطعن في ظهر من اعتبروه أخا.”
فالجزائر إذن مطالبة اليوم بمراجعة عاجلة وجادة لسياستها في الساحل. الصمت لم يعد حكمة. والغموض لم يعد ذكاء. إما أن تختار بوضوح جانب الاستقرار وتكون شريكة حقيقية لجيرانها، أو تواصل الانحدار في قائمة الدول التي تتكلم عن مكافحة الإرهاب وتتهم باحتضانه. المعادلة تغيرت. والجيران ليسوا كما كانوا. ومن أراد لعب دور الزعيم الإقليمي، فعليه أولاً أن يتعلم كيف يكون جارا صالحا.






