المثقف والسلعة: هل نحن متواطئون؟ (قراءة في جوف محمد طواع)

بقلم: زكية لعروسي

في عالم يتشكل وفق قوانين السوق، حيث يصبح الفكر منتجا، والكتاب بضاعة، والمثقف علامة تجارية قابلة للتسويق، يطفو السؤال الأكثر إلحاحا: هل المثقف اليوم لا يزال كيانا مقاوما أم أنه أصبح جزءا لا يتجزأ من المنظومة التي كان يفترض به أن يقف ضدها؟

حين يتحدث المفكر والفيلسوف محمد طواع المغربي في مقاله “في شأن المثقف والثقافة” عن تحول الثقافة إلى سلعة، وعن معارض الكتب التي تستنسخ الأسماء ذاتها، وعن دور النشر التي باتت انتقائية، فهو لا يكتفي بالإشارة إلى ظاهرة عابرة، بل يضع يده على جرح عميق في بنية الفكر المعاصر. لقد أصبح المثقف، بقصد أو بغير قصد، جزءا من لعبة السوق، حيث لم يعد يقاس وزنه بقيمة أفكاره، بل بقدرته على البيع، وعلى خلق جماهيرية قابلة للاستثمار.

لكن السؤال الأكثر خطورة هنا ليس في رصد هذه الظاهرة فحسب، بل في تفكيكها: هل نحن، كمثقفين، مجرد ضحايا في هذه اللعبة، أم أننا متواطئون فيها بوعي أو بغير وعي؟وهل بين المقاومة والتكيف خسر المثقف معركته؟

لعل المشكلة الكبرى لا تكمن فقط في تهميش المثقف، بل في الدور الذي أصبح عليه أن يلعبه في عصر لا يعترف إلا بالأكثر بروزا، لا الأكثر عمقا. لم يعد المثقف اليوم هو ذات الصوت الصادح الذي يُلهم الحشود، بل بات عليه أن يقاتل من أجل أن يُسمع، وأن يتفاوض مع متطلبات السوق التي تفرض عليه أن يكون خفيفا، سريعا، مستساغا، وقابلا للاستهلاك اللحظي.

لكن، أليس المثقف نفسه قد ساهم في هذه الأزمة؟

كم من كاتب تخلّى عن مشروعه الفكري لصالح ما يطلبه السوق ليصبح من اصحاب ما أسميه بالبيترودولار؟ كم من مفكر قبِل أن يتحول إلى “مؤثر”، لكي لا يتجاوزه الزمن؟ كم من أديب بدأ بالكتابة بعمق، ثم اضطر لاحقا لتقديم جرعات فكرية مخففة لكي يضمن لنفسه جمهورا؟

هنا تكمن المفارقة العظمى: المثقف الذي لطالما كان رمزا للمقاومة، هل أصبح مجرد تكيف مع العصر؟ أم أن التكيف ذاته هو شكل من أشكال المقاومة الذكية؟ لم يعد السؤال: “لماذا تم تهميش المثقف؟” بل “لماذا قبل المثقف بهذا التهميش؟ ولماذا لم يجد أدوات جديدة لمجابهته؟” وهل فقدنا القدرة على الإصغاء؟

إن الإشكالية لا تتعلق فقط بالمثقفين، بل بالجمهور نفسه. محمد طواع يلمّح، بشكل دقيق، إلى أن المثقف لم يختف تماما، بل إن العالم تغيّر من حوله. السؤال هنا ليس: “لماذا لم يعد المثقف مؤثرا؟” بل “هل ما زال الجمهور قادرا على سماعه أصلا؟”

لقد خلق الإعلام، بسطوته الجبارة، أنماطا جديدة من الخطاب، حيث أصبح من يجيد التلاعب بالكلمات، وإثارة الجدل السطحي، واللعب على أوتار الانفعال اللحظي، هو الأكثر حضورا. لم يعد الناس يبحثون عن الفكر العميق، بقدر ما يبحثون عن الترفيه المُغلّف بلغة ثقافية زائفة.

المثقفون لم يختفوا، لكن ربما نحن لم نعد نبحث عنهم، وربما هم لم يعودوا يعرفون كيف يصلون إلينا. فالمعركة لم تنته أيها القارئ العزيز، لكنها تغيرت. في الماضي، كان المثقف ذلك الصوت النخبوي القادر على تشكيل الوعي، حتى لو كان معزولًا في برجه العاجي. اليوم، لم تعد العزلة خيارا، ولم يعد بالإمكان الرهان على النخب وحدها.

المعركة الآن لم تعد معركة وجود، بل معركة أدوات. المثقف الذي يريد البقاء، عليه أن يعيد تعريف نفسه، وأن يعيد ابتكار طرق تأثيره، دون أن يفقد جوهره. فبدلا من أن يظل يندب حظّه، ويشكو من تهميشه، عليه أن يسأل: كيف يمكنني أن أكون فاعلا في هذا العصر، دون أن أفقد هويتي الفكرية؟

فإما أن يجد المثقف طريقا جديدا ليسمع دون أن يباع، أو أن يرضى بالصمت، لكنه عندها لا يملك الحق في أن يلوم أحدا على عدم الاستماع.

نحن يا قارئي امام مفترق طرق: إما أن نواجه هذا الواقع بذكاء، وإما أن نستسلم للغياب. الصمت، في أحيان كثيرة، أكرم من الكلام البارد، والانعزال أوفى من حضور لا دفء فيه. لكن، في ذات الوقت، هناك صمت هو استسلام، وهناك صمت هو تأمل قبل العودة بصوت أكثر عمقا، وأكثر قدرة على إحداث الأثر.

المثقف الذي يرفض التحول إلى بضاعة، لكنه يرفض أيضا الانسحاب، هو وحده القادر على أن يكون ضمير هذا العصر. ولكن، هل نحن مستعدون للاستماع إليه؟