
بقلم: زكية لعروسي

أي زمن هذا الذي يصبح فيه الانتماء للوطن تهمة، والهجرة مسبة، والمواطنة درجات تُوزّع وفق أهواء المتحكمين في الخطاب؟ أي منطق أعوج يجعل المهاجر غريبا في وطنه، متهما في وطنيته، محقّرا في علمه وكفاءته؟
المثقف الذي يعاير المهاجر هو خائن لدوره قبل أن يكون ظالما لغيره. هو من يفترض أن يكون مدافعا عن الحق، فإذا به يصطفّ مع جلاديه، يمارس الوصاية على الوطنية، يصنّف البشر كأن الوطن ملكية خاصة.
كيف أصبح المهجر تهمة، والمواطنة تُقاس بجغرافيا الإقامة؟ بأي منطق يُختزل الانتماء إلى الوطن في حدود ترسمها عقول ضيقة، ترى نفسها وصية على الوطنية، وتحجبها عن من شرّدوا قسرا أو اختاروا الهجرة بحثا عن أفق أوسع؟ فكيف في وطن، يقال لمن ارتحل: أنت أقل شأنا، أنت لست مثلنا، أنت مجرد مهاجر. فبأي شريعة يُختزل الإنسان في مكان إقامته؟ بأي منطق تصبح الهجرة وصمة عار؟ أي مثقف هذا الذي يرى في النجاح خارج الحدود انتقاصا، وفي الفكر النقدي تهديدا؟
إنه المثقف المزيف، المتشبع بالغرور والأنانية، العالق في شرنقة أناه المتضخمة، الذي يرفع شعارات الحرية والانفتاح لكنه يرتعد أمام الرأي المختلف. إنه الوجه الجديد للديكتاتورية، حيث تُقاس الوطنية بالسكن، وتُوزع الشرعية الفكرية كصكوك غفران.
احتقار المرأة، والمهاجر يا قارئي الكريم وجهان لعملة واحدة. عندما تحتقر المرأة، فأنت تحتقر نصف المجتمع. وعندما تحتقر المهاجر، فأنت تفرّط في نصف الوطن. نفس العقلية التي تعتبر “المرأةحاشاك” هي التي تنظر إلى المهاجر نظرة دونية. نفس التقاليد العقيمة التي تهمّش المرأة، تهمّش كل من يخرج عن القطيع.
أنا موجعة يا وطني، لأنك تترك أبناءك نهبا لخطابات الإقصاء، لأنك تسمح بأن يُعامل المهاجر كالغريب، رغم أنه من يُشعّرك بوجودك أينما ذهب. بأي حق يُسلب المهاجر انتماؤه؟ بأي قانون يُحرم من كرامته؟ في اي قانون يقال للمرتحل: انت لست ابن الوطن؟ هل لأننا اخترنا أن نبحث عن أفق أوسع، أصبحنا أقل شأنا ممن بقوا؟ هل أصبح جهدنا في المهجر بلا قيمة، رغم أننا لم نقطع يوما وصال الوطن؟
المهاجر ليس طارئا على الوطن، بل هو أحد أعمدته. هو من يرسل التحويلات المالية التي تدعم الاقتصاد، هو من يحمل صورة بلاده أينما ذهب، هو من يرفع اسمها في الجامعات والمختبرات والمصانع والمؤسسات العالمية. فهل من المنطق أن نُحقره لأنه خارج حدود الجغرافيا؟
حين نخذل ، لا عزاء لنا إلا القلم. حين يمارس عليك الإقصاء باسم الانتماء، لا يبقى لك إلا أن تكتب حتى لا تُمحى هويتك. لكن أين أقلام الغربة؟ أين أصوات الذين يعيشون في المنافي، ويحملون جراحهم بصمت؟ لماذا يسكت مثقفونا في المهجر عن هذه الإهانة المستمرة، عن هذه النظرة الدونية التي تطاردهم؟ الغربة ليست موتا، لكنها نزيف مستمر حين يأتي التجريح من الداخل. وحين يكون الجلاد مثقفا، تكون الخيانة أعظم.
ايها القارئ الكريم، المهاجر ليس عالة، بل هو قوة مغيبة. من يحتقر المهاجر، يحتقر الوطن. من يقلل من شأنه، يقلل من شأن وطنه. من ينظر إليه بدونية، يعترف بعجزه عن رؤية أبعد من قدميه. لأن الحقيقة البسيطة التي يرفضون الاعتراف بها هي أن المهاجر طاقة مهملة، وكنز بشري أُسيء فهمه.
فإلى متى سيبقى المهاجر هدفا سهلا للجلد؟ وإلى متى سيبقى المثقف المزيف يوزع صكوك الوطنية ويقرر من يستحق ومن لا يستحق؟ من ينصف ابناء المهجر؟ من يداوي جراح هؤلاء الذين يشقون في أرض الله الواسعة، ثم يقال لهم إنهم بلا هوية؟ من يرد الاعتبار لمن يحملون وصال الوطن في قلوبهم، ولا يتخلون عن وصايا آبائهم الذين رحلوا حاملين حب الأرض في صدورهم؟
كيف ارد على هؤلاء الذين يعايروني بالمهجر.. وأنا من أحمل الوطن في عروقي ودمي؟ إنها “اسكيزوفرينيا المثقف المبطن”، الذي يتحدث عن الحداثة والانفتاح، لكنه لا يقبل إلا نسخته الخاصة من الوطنية. هو الذي ينادي بالتعددية، لكنه يرفض الاعتراف بمكانة المهاجر.
الوطن يا سادة ليس حقيبة تحزم.. الوطن يعيش فينا.. الوطن ليس سجنا يُغلق على من بداخله، والمواطنة ليست بطاقة تمنح لمن لم يعبر الحدود. الوطن فكرة، إحساس، ارتباط روحي يتجاوز الخرائط. وكل من يعتقد غير ذلك، فهو صغير الفكر، ضيق الأفق، عاجز عن فهم معنى الانتماء الحقيقي.
الهجرة ليست هروبا، بل امتداد للوطن. الوطنية ليست شعارا، بل عمل وكفاح وتضحية. والمغربي، سواء داخل الوطن أو خارجه، يبقى مغربيا، بروحه وعطائه وإرادته.
كفوا عن جلد المهاجر، عن تقزيم المرأة، عن تقنين الوطنية بمنطق إقصائي. الوطن للجميع.. ولا وصاية لأحد عليه!
أما نحن، أبناء المهجر، فسنظل نحمل وصال الوطن في عروقنا، رغم الجحود، رغم التهميش، رغم الأصوات الناعقة التي تحاول أن تحجب نور الحقيقة. سنظل هنا.. نحمل أقلامنا.. ونكتب حتى لا يُسلب منا الوطن باسم الوطنية.




