المثقف وديكتاتورية الرأي: بين أناه المتضخمة وحق الآخر في التعبير

 

 

 

بقلم: زكية لعروسي

كيف أصبح المثقف في زمننا هذا سجّانا بدل أن يكون منارة للحوار؟ كيف تحوّل النقد البناء إلى تهمة، والوطنية إلى حكر على فئة دون أخرى؟ كيف صار الانتماء للوطن يقاس بالإقامة فيه، وليس بالإخلاص له فكريا وعلميا وثقافيا؟

حين نتحدث عن المثقف، فإننا نتحدث عن عقل يفترض به أن يكون منفتحا، قابلا للنقاش، متقبلا للرأي المخالف. لكن الواقع في كثير من الأحيان يكشف عن مثقف يمارس السلطة المطلقة على الفكر، يرفض النقد، ويُسخّف آراء الآخرين، كأنه يمتلك الحقيقة المطلقة.

الجاحظ، أحد أعمدة الفكر العربي، كان ناقدا ساخرا، يفضح زيف المدّعين دون تردد. في كتابه البيان والتبيين، تحدّث عن المتفيهقين الذين يخلطون بين المعرفة الحقيقية والاستعراض الفارغ، وأشار إلى أولئك الذين يُصغّرون غيرهم ليبدو هم كبارا. هذا السلوك الذي وصفه الجاحظ منذ قرون لا يزال حيا بيننا اليوم، حيث نجد بعض المثقفين يمارسون الاستصغار والتهميش بدلا من التحاور والنقاش.

ايها المثقف المتعالي، المهجر ليس نقيصة والوطنية ليست إقامة جغرافية.

إن احتقار المهاجر والتشكيك في وطنيته هو جهل بواقع العصر. المهجر ليس منفى، بل هو امتداد للوطن، يحمل فيه أبناؤه مشاعل العلم والفكر. هل نسي هؤلاء أن الجاحظ نفسه، والفارابي، وابن رشد، وغيرهم من رموز الفكر العربي، عاشوا في مدن غير التي وُلدوا فيها؟ هل كان عليهم أن يُعايروا بأنهم ليسوا “أبناء الأرض” التي يكتبون لها؟

الوطنية ليست ورقة إقامة، ولا جواز سفر، بل هي انتماء فكري وروحي وثقافي. إن المثقف الحقيقي لا يحتاج إلى شهادة في الوطنية من أحد، ولا يُقاس ولاؤه بعدد الأيام التي يقضيها داخل حدود الوطن.

أسوأ ما يمكن أن يُصيب مثقفا هو أن يعتقد أن رأيه هو القانون، وأن من يخالفه جاهل أو ناقص. هذا التفكير ليس من سمات العقل المستنير، بل هو أقرب إلى الاستبداد. المثقف الحقيقي لا يخشى النقد، بل يعتبره فرصة للنمو والتطور. أما من يرى في النقد تهديدا، فهو لم يخرج بعد من شرنقة الأنا المتضخمة.

إن تقديس الذات يا قارئي العزيز يقتل الفكر، فليعلم من يتطاول على وطنية المهاجر والتصغير من المستوى الثقافي للمرأة. ان “كل خنفوس عند أمه عزيز” كما تقول امي خيرة. هذه المقولة الشعبية تختزل واقعا مُحزنا: كل فرد يرى نفسه مركز الكون، وكل مثقف يقدّس ذاته ويرفض أن تُمس مكانته. لكن التقديس يقتل الفكر، ويحوّل الثقافة إلى استعراض أجوف. نحن بحاجة إلى عقول تحتمل النقد، وتفهم أن الاختلاف ليس تهديدا، ونقد العقل العربي ليس مساسا بعروبتنا بل ضرورة للنمو. وإلا تتبع مفكرها محمد عابد الجابري وإمام علم الاجتماع ابن خلدون.

الوطن لا يحتاج إلى مثقفين متعالين، بل إلى عقول ناضجة تتقبل النقد وتثري الحوار. الوطن ليس ملكية خاصة لأحد، والهوية ليست بطاقة تعريف. المثقف الحقيقي هو من يطرح الأسئلة، لا من يحتكر الأجوبة، وهو من يبني جسور التواصل، لا من يهدمها بغروره. فهل نحن مستعدون لنقد ذواتنا قبل أن نمارس الديكتاتورية على الآخرين؟