ضربة «معلم زلايجي»

بقلم: عبد الدين حمروش

من اللازم أن ينتهي البوليميك المستعر بين الفريقين من نشطاء منصات التواصل الاجتماعي، سواء من جهة الجزائر أم من جهة المغرب. هذا مطلب يدعو إليه عدد من المثقفين، وينبهون إلى ما يمكن أن يشعله البوليميك “الخاوي” من مشاحنات بين الشعبين الشقيقين. والأخطر في هذا، أن السجال (أو الصراع) لم يعد محصورا في القمة، بل “هبط” إلى الأسفل، أي إلى القواعد، مثيرا عواصف من الضغائن الشعبية.

السجال في أشده، على أكثر من صعيد دبلوماسي، واقتصادي، وعسكري (وإن لم يتعد الأخير سباق التسلح حتى الآن). وفضلا عن كل ذلك، ظل يحتدم صراع آخر، لا يقل درجة في حدته، وهو الصراع حول نسبة بعض الموروثات الثقافية والحضارية. وبخلاف عدد من المثقفين، أجد النقاش حول تسجيل عناصر التراث، من قبل كل دولة وشعب، ذا إيجابيات كثيرة. ومن المطلوب المرغوب فيه، أيضا، أن يحصل الترافع بالأدلة لدى اليونسكو (بصفتها منظمة معنية بالتسجيل). وبالنسبة إلى هؤلاء دائما، يذهبون إلى أن المسألة لا تتعدى كونها انكفاء مرضيا، على أساس وجود إحساس مبالغ فيه بالذات الجماعية (لهذا الشعب أو ذاك)؟ وإذا تم صرف النظر عن الجوانب المعنوية، من قبيل دعم الهوية الثقافية والحضارية لشعب ما، بغاية ترسيخ النازع الوطني، لمواجهة مختلف التحديات الداخلية والخارجية، هل يمكن التغاضي عن المردود المادي (عبر ما تدره تلك الموروثات على السياحة مثلا) للثراء الثقافي لشعب ما، بعد تقييمه وتثمينه، ومن ثم إدراجه ضمن عناصر التنمية؟ هل كان للموضوع أن يظهر خارج كونه مجرد انفعال “مجاني” مبالغ فيه، إن لم يكن شأنه أن يؤدي إلى استدامة سوء الفهم التاريخي بين شعبين شقيقين؟

لقد وصل عدد السياح، الوافدين إلى المغرب، هذه السنة، أكثر من 17 مليون سائح، متعديا بذلك سياحة مصر وجنوب إفريقيا معا (حسب الإحصائيات الرسمية). وبمتابعة سريعة لتصريحات بعض هؤلاء الأجانب، على قنوات التلفزيون، واليوتوب، والصفحات الشخصية، سنجد أن الإعجاب بالمطبخ المغربي يحتل الصدارة. ما يقدمه الطاجين والطنجية، وأكلات أخرى غيرهما، بالموزاة مع العناصر الثقافية والحضارية والطبيعية المختلفة، بالطبع، يوازي ما قد تقدمه قطاعات تكنولوجية متنوعة من مردود مادي أحيانا. ولذلك، أتفهم الصراع الذي ينشأ حول ملكية الطاجين، أو الملحون، أو الفسيفساء. إن لم يكن بالإمكان خلق قطاع صناعي متقدم، يرفع البلاد إلى صف الدول الصناعية الكبرى، فبالأحرى الانتباه إلى المكونات الثقافية، مادام قد باتت تقوم مقام البترول من حيث المردودية، ولو بنسبة معينة اليوم.

السياحة الثقافية صناعة كبيرة في أوروبا وأمريكا، وتجبي منها دولها موارد مالية هائلة (إسبانيا، فوقنا، مثلا). ولذلك، والحديث جار عن السياحة الثقافية، ومن عناصرها قوائم المطبخ المغربي، لا ينبغي أن تفوت الفرصة دون الإشادة بأولئك السيدات المبدعات، اللائي جعلن أكلات محلية عديدة “تطيب” (من الطيب) بين أيديهن، من قبيل الكسكس، والبسطيلة، والرفيسة، والطاجين، وكعب غزال…(وليس هذا وحده هو المسجل باسمهن قطعا)! على الرغم من كون هذه معادلة تبسيطية، وقد تبدو كاريكاتورية، أو جزئية، فبالتأكيد لا يمكن الاختلاف حول كونها تنطوي على حقائق ملموسة في المحصلة.

لا أخفي أنني أعجبت بالتميمة الموضوعة لكأس إفريقيا، المزمع تنظيم فعالياتها بالمغرب قريبا. بعد المحاولة المفتعلة لحيازة الزليج، خلال السنة الفارطة، هاهي الفسيفساء المغربية تعود لتغطي “الكأس”. وإضافة إليها، ها هو الفيديو، الموضوع بعناية إعلامية فائقة، يترجم شغف “الزلايجي” المغربي، المثابر الذي لا يضيق صبرا من تركيب قطع الفسيفساء الصغيرة، إلى أن تستوي في شكل لوحات معمارية مذهلة، على واجهات أبواب المدن القديمة، والنوافير ، والمساجد، والأضرحة، وجدران القصور. إنها الفسيفساء التي غدت تؤثت التصاميم المعمارية في مختلف البلدان والقارات. وحتى الأندلس، التي اقتسم معها المغاربة التاريخ والأسر الحاكمة، على مدى قرون عديدة، ليس هناك من بد عن الحاجة إلى الصانع المغربي، لإعادة الحياة إلى قصور قرطبة، وغرناطة، وإشبيلية.

الزليج المغربي، ليس وليد نزوة عابرة، أو ادعاء سطحيا. إنه تاريخ من الصنعة، الممهورة بالعشق والفتنة والشغف، والمبتلة بالعرق، قبل أن تبتل بطين فاس، ومائها الفردوسي. الفيديو جعل الفسيفساء تحكي، في لمحة ضوء، بال “مغربي”. مشهد واحد لقطعة فسيفساء، وهي تتضوع ألوانا وأضواء وزخارف وحياة، دليل على حكاية فن وشغف، وسيرة صنعة وصبر، قبل أن تنهل عن أصابع “الصنايعي” شلالات سحر وفتنة، في أقسام المدارس العتيقة، وباحات الأضرحة القائمة، وغرف الحمامات الساخنة، وأجنحة المارستانات الشاهدة. كان لابد من مثل ضربة “الزلايجي” الدقيقة، التي لا “تسقط” الحفلة فوق رؤوس المحتفلين، ولا تثير ضجيجا من الغبار أمام الحضور. وكان من المناسب مشاهدة إزميل الفسيفسائي يتحرك في مساحة المليمتر، دون أن تنكسر له زاوية.