بقلم: زكية لعروسي
البكاء ليس مجرد فعل جسدي ينشأ عن انفعال عابر، بل هو لغة خفية تُكتب بالدموع على صفحات الروح، وأعمق طريقة للتعبير عن الإنسانية في تجلياتها المختلفة. إنه فعل تتداخل فيه الفلسفة مع العاطفة، والجسد مع الروح، والمأساة مع الجمال، ليكشف عن حقيقة الإنسان، ضعفه وقوته، رقته وعمقه.
في فكره العميق ولغته الساحرة، لم يكن الجاحظ يرى البكاء مجرد حالة انفعالية، بل قوة داخلية تهذب النفس وتصقل الروح. لقد وصفه بأنه “صالح للطبائع، ومحمود المغبة”، فالبكاء عنده ضرورة وجودية تُعيد الإنسان إلى توازنه النفسي والجسدي، وتجعله أكثر نقاء وأقرب إلى فطرته.
البكاء ليس فقط انهمار الدموع، بل هو انكشاف الإنسان أمام ذاته، ورحلة نحو العمق. نحن نبكي لأننا نحمل داخلا ممتلئا بما لا يُقال. نبكي حين تُثقلنا الأحزان، أو حين يفيض الحب عن القدرة على الكلام، أو حين تبلغ السعادة ذروتها في لحظة تكاد تلامس حدود السماء.
البكاء دليل على رقة القلب وابتعاد الإنسان عن القسوة، وهو في ذات الوقت شهادة على الوفاء وشدة الولاء للأحبة. إنه تعبير عن الإنسانية في أصفى صورها. صفوان بن محرر، الذي بكى حتى فقد بصره، لم ير في فقدانه سوى دليل على صدق عاطفته، وكأن الدموع كانت طريقه للتطهر، أو لتخليد لحظة استثنائية من الحزن والوفاء.
لقد رأى الحكماء أن للبكاء بُعدا علاجيا للنفس والجسد. أورد الجاحظ حكمة أحد الفلاسفة الذي قال لرجل جزع من بكاء طفله: “لا تجزع، فإنه أفتح لجرمه، وأصح لبصره”. وكأن البكاء في نظر هذا الفيلسوف نافذة تطل منها الروح على ذاتها، وطريقة يختبر بها الجسد قوته ونموه.
في الأدب والفلسفة العالمية، كان البكاء شاهدا على التحولات الكبرى في النفس الإنسانية. ديستويفسكي، مثلا، رأى في البكاء قوة تتجاوز الكلمات، قائلا: “البكاء ليس ضعفا، بل هو القوة الحقيقية للروح حين تواجه حقيقتها”. البكاء، بالنسبة له، ليس استسلاما بل احتفاء بالمشاعر الإنسانية في أعمق صورها.
نحتاج أن نبكي لأن الدموع تطهر الروح مثلما يغسل المطر الأرض. نبكي لأن الحياة أثقل من أن تُحتمل دون لحظات من الانفجار العاطفي. نبكي لأن الحزن والحب والغضب والفرح هي أعباء نبيلة، لكننا نحتاج إلى أن نفرغها لنتمكن من المضي قُدما.
في الحب، نبكي لأننا نلمس جمالا لا يُوصف. البكاء في الحب يضعنا في مواجهة هشاشتنا؛ فهو يجعلنا أضعف أمام من نحب، لكنه يمنحنا قوة غير مألوفة. دموع الحب ليست ضعفاً، بل هي أصدق شهادة على الامتلاء الذي نشعر به.
وفي الغضب، نبكي لأن الدموع تُطفئ نيران الألم، وتُهدئ العاصفة التي تثور داخلنا. البكاء هنا هو صرخة الروح للعودة إلى التوازن بعد أن يزلزلها الانفعال. فبهذا البكاء يُصارع الإنسان ذاته قبل أن يُصارع الآخر. أما في الفرح، فإن الدموع تصبح تتويجاً لجمال اللحظة، شهادة على امتناننا العميق. إنه انفجار للحظات من الصفاء، والنقاء، حيث تختلط السعادة بالعجز عن وصفها. وكأن الدموع في الفرح هي اعتراف بأن اللغة لا تستطيع احتواء عظمة اللحظة.
يمنح الجاحظ البكاء في كتاباته بُعدا روحيا عميقا، فيراه وسيلة للتقرب إلى الله. دموع العابدين والخائفين ليست مجرد ماء يتساقط من العين، بل هي لغة الروح في لحظات الإيمان الأعمق، حيث تتحول الدموع إلى طقس مقدس.
إن العابد الذي يبكي، كما يرى الجاحظ، إنما يعبر عن إدراكه العميق لعظمته كإنسان ضعيف في حضرة الخالق. إنها لحظة من الصدق المطلق، حيث تصبح الدموع صلاة صامتة، وتضرعاً نقياً يربط الأرض بالسماء.
البكاء، في جوهره، ليس مجرد رد فعل إنساني، بل هو انعكاس لحقيقة الكائن البشري بكل ضعفه وجماله. كما قال الجاحظ، “البكاء دليل على الرقة، والبعد من القسوة”. إنه شاهد على أننا ما زلنا نحمل قلوبا تنبض، وأرواحا تبحث عن الطمأنينة.
فلا تقلق يا قارئي إن امطرت عيونك، ففي لحظة البكاء، تصبح وأصبح أكثر إنسانية، وأكثر قربا من حقيقتنا. الدموع ليست ماء ينهمر من العيون، بل هي نهر يسير من القلب إلى العالم، يُخبر الجميع أننا ما زلنا نعيش، ونحب، ونحزن، ونفرح… بكل عمقنا وبكل صدقنا. البكاء ليس ضعفاً، هو أداة حياة. إنه يعكس وفاءنا لأحبتنا، وصدق مشاعرنا، وعمق إنسانيتنا. في دموعنا، نحن أقرب ما نكون إلى ذواتنا الحقيقية.
فالبكاء، في جوهره، ليس نهاية الشعور، بل بدايته. إنه اللغة الصامتة التي تتحدث بها الروح حين تعجز الكلمات عن الوصف.