بقلم: زكية لعروسي
في السابع من يناير 2015، اقتحم العنف قلب باريس مستهدفًا حرمة الكلمة والصورة، مُحوّلًا مبنى صغيرًا في باريس إلى مركز مأساة عالمية عندما هاجم الأخوان كواشي في محاولة بائسة صحيفة “شارلي إيبدو”، تاركين وراءهما 12 قتيلًا من صحفيين ورسامي كاريكاتير.
لم يكن الهجوم مجرد عمل إرهابي عابر، بل نقطة فاصلة في العلاقة بين الشرق والغرب. فكانت الجريمة صدمة إنسانية وسياسية، وضعت العالم أمام سؤال بالغ الأهمية: هل حرية التعبير حق مطلق؟ أم يجب أن تخضع لضوابط تحترم القيم الإنسانية والدينية؟.
نعم. عشر سنوات مضت على تلك اللحظة التي هزّت الضمير الإنساني، ورسمت خطوطا حمراء بين حرية التعبير واحترام المقدسات. إن هذا الحدث الاليم فتح جروحًا ثقافية عميقة، طرحت وما زالت أسئلة كبرى حول مسؤولية الكلمة والصورة. اليوم، يقف العالم أمام سؤالٍ يبدو بسيطا، لكنه في جوهره عاصف ومعقّد: هل نبحث في أعماق العواصف عن الحقيقة، أم نشعل المزيد من الفتيل؟
ففي الذكرى العاشرة للهجوم، أعلن فيليب فال، المدير السابق لـ«شارلي إيبدو»، أنه لا يندم على نشر الرسوم الكاريكاتورية التي أثارت الغضب قبل عشرين عاما، معتبرا أنها كانت دفاعا عن «حرية الصحافة». ولكن، هل كانت فعلًا هذه الحرية طريقا للحوار؟ أم أن هذه الرسوم فتيل أشعل نار كراهية أحرقت الجسور بين الثقافات وأثقلت النفوس بالاضطرابات؟
قررت “شارلي إيبدو” نشر عدد خاص يحمل رسالة صمود وتحدّ: “نحن لا نقهر، والرغبة في الضحك لن تختفي”. يتضمن العدد 40 رسما كاريكاتوريًا ساخرا تم اختيارها من مسابقة عالمية أطلقتها الصحيفة تحت وسم “السخرية من الله”. يهدف العدد إلى إبراز السخرية كوسيلة للتعبير والتصدي لأي محاولة لإسكات الأصوات الحرة.
رئيس تحرير الصحيفة، “ريس”، يؤكد أن هذه السخرية كانت بمثابة طوق نجاة خلال السنوات العصيبة. ويقول: “الضحك يعني أننا نريد الحياة. السخرية والكاريكاتير ليسا مجرد فن، بل أدوات للمقاومة والتفاؤل”.
من جهة اخرى تشير دراسة حديثة أجرتها مؤسسة Ifop إلى أن 76% من الفرنسيين يعتبرون حرية التعبير حقا أساسيا، وأن السخرية، حتى من الرموز الدينية، جزءٌ من هذا الحق. لكن الدراسة تكشف أيضا أن 62% من المشاركين يؤيدون حرية النقد الجريء حتى عندما يمس المعتقدات، ما يبرز تناقضًا بين دعم الحريات الفردية والقلق من نتائجها.
ومع ذلك، تبقى التساؤلات قائمة: هل يمكن للسخرية أن تكون وسيلة للبناء بدلا من الهدم؟ هل يمكن للفن أن يعزز الحوار دون أن يكون أداة استفزاز؟
الإرهاب، كما أثبتت أحداث 2015، لا دين له. إنه تعبير عن الجهل والتطرف، ولا يمكن تبرير القتل والقمع تحت أي مسمى. لكن في إدانة الإرهاب، لا يعني ذلك تبرير كل ما يُنشر باسم الحرية. نحن بحاجة إلى توازن بين الدفاع عن حرية التعبير واحترام العقائد والمقدسات. النقد جزء من حرية التعبير، لكنه لا يعني الاستخفاف بما يُعتبر مقدسا لدى الآخرين.
بينما تؤكد “شارلي إيبدو” على حقها في السخرية كجزء من حرية التعبير، تبقى مسؤولية الصحافة والفن في عالم يزداد انقساما مسألة حساسة. كيف يمكن استخدام السخرية والفن لتعزيز التفاهم بدلًا من تعميق الجروح؟
إن التعايش السلمي بين الثقافات يتطلب بناء جسور من الحوار، وليس إشعال فتائل جديدة. ربما تكون الذكرى العاشرة فرصة لتوجيه الكلمة والصورة نحو أهداف أسمى: تعزيز السلام، وتكريس قيم الاحترام.
إذا كان التاريخ قد علّمنا شيئا، فهو أن العناد أمام العنف لا يُخمِد النار، بل يزيدها اشتعالا. إن الذين مارسوا العنف لم يعبروا عن أي دين أو حضارة، بل جسّدوا الجهل والتطرف. لكن المواجهة بالسخرية من المقدسات هل هي السبيل لمحاربة هذا التطرف؟ أم أنها تعمق الجروح والانقسام وتقطع حبل الحوار بين الحضارات؟
لا جدال في أهمية حرية التعبير، لكن النقد يختلف عن الاستخفاف بما يعتبره الآخر مقدسًا. الرسوم الكاريكاتورية التي تهين العقائد تساهم في إذكاء نار الكراهية. الكلمة والصورة قوتان عظيمتان، ويمكن استخدامهما للبناء أو للهدم. إن قضية الكاريكاتور حساسة ومعقدة تجمع بين إشكالية حرية التعبير واحترام المقدسات، وهي مسألة تستدعي التفكر العميق والتحليل المتزن حول احترام الأديان ودور الفن في بناء الجسور بين الثقافات، بل انها تضع العالم أمام معضلة: هل نستخدم الفن لتوحيد الشعوب أم لتعميق الانقسامات؟ إذا كانت الرسالة محاربة التطرف، فلماذا لا تتجه إلى تعزيز الحوار بدلاً من استفزاز المشاعر؟
يرى الفلاسفة أن احترام المقدسات ركيزة أساسية للتعايش. غاندي أشار إلى أن الأديان لا تعيش بسلام إلا بالتعايش. أما جون ستيوارت ميل، فيشدد في كتابه “عن الحرية” أن الحرية تنتهي حيث تبدأ مشاعر الآخرين، مؤكدا أن الحرية لا تعني الإيذاء، بل تتطلب حسّا بالمسؤولية: “إن الحرية تنتهي حيث يبدأ حق الآخر”. هذا يؤكد أن حرية التعبير ليست مطلقة، بل تحتاج إلى توازن يحترم مشاعر الجميع، ما يمكن أن نسميه بالميزان الفكري.
من جهة اخرى، الفن، كوسيلة للتعبير، يحمل قوة هائلة لتوحيد البشر أو إثارة الفتن. هنا يمكن استحضار مقولة الرسام الإسباني بابلو بيكاسو: “الفن هو سلاح لمهاجمة القبح”. إذا كان القبح في التطرف والعنف، فإن الفن يجب أن يكون وسيلة لمواجهته، ولكن دون أن يصبح بحد ذاته قبيحا بإيذاء معتقدات الآخرين.
في السياق الإسلامي، تبرز فكرة “الكلمة الطيبة”، التي يدعو إليها القرآن الكريم. هذا المبدأ يمكن أن يكون أساسا لفنٍ يحترم الآخرين، ويستخدم الكلمة والصورة لبناء الحوار لا هدمه.
أحداث «شارلي إيبدو» ليست مجرد ذكرى، بل درس يجب أن نتعلم منه: العناد أمام العنف قد يكون موقفا بطوليا، لكنه قد يكون أيضا تأجيجا لنيران لا تنطفئ. نحن في عالم يزداد تعقيدا، يحتاج فيه الحوار إلى مساحات أكبر، حيث يمكن للكلمة والصورة أن تجمع لا أن تفرق. فبدلا من التركيز على الرسوم الاستفزازية، يمكن أن يكون التركيز على إحياء ذكرى الضحايا بأساليب تدعم حرية التعبير، ولكن مع التأكيد على أن هذه الحرية لا تعني إلغاء الاحترام للقيم الإنسانية. يمكن للفن أن يصبح لغة عالمية تحتفي بالقيم المشتركة باتخاذ مسارات أخرى تسلط الضوء على الجوانب والقيم الإنسانية المشتركة بين الثقافات، والتي يمكن أن تكون جسرا للتفاهم.، مثل المهرجانات الثقافية أو الأفلام الوثائقية التي تحتفي بالتنوع. الفن هنا يصبح لغة عالمية تسهم في تعزيز التفاهم بدلا من تعميق الشقاق. إن بناء مستقبل يقوم على الاحترام والتعاون يحتاج إلى استبدال العناد بالحوار، والصدام بالتفاهم.
حرية التعبير ليست مطلقة، بل تأتي مقرونة بحسّ عالٍ من المسؤولية. يمكننا أن نستخدم الكلمة والصورة لتكونا أدوات للبناء، لا للهدم. إن العالم بحاجة إلى فن يسهم في تهدئة العواصف لا تأجيجها، وإلى نقاش يعلي قيم الاحترام دون أن يقيد حرية التعبير. فبين التحدي والإبداع، يبقى الاختيار لنا والمستقبل في أيدينا. هل نختار طريق الاحترام والحوار؟ أم نواصل السير في طريق يملؤه الصدام والانقسام؟ الإجابة ستحدد ملامح الغد والمسقبل.