الذكاء الاصطناعي واللغة العربية: بين التحدي والفرص

بقلم: زكية لعروسي

هل تغيّرت موازين القوى أم أن الصورة ليست واضحة بعد؟ يتبادر إلى ذهني هذا التساؤل وأنا أشهد صعود المغرب العربي إلى قمة المشهد الثقافي العربي، متفوقًا في مجالات الدراسات اللسانية والنقدية وحتى في الرواية. من المغرب إلى تونس والجزائر، أصبحت الجوائز الأدبية تُزين أسماء كتّاب مغاربيين. ولكن، وسط هذه الإنجازات، يظهر غياب ملحوظ لدور اللغويين المغاربيين في تعزيز مكانة اللغة العربية. حتى في احتفالات اليوم العالمي للغة العربية، لم نجد من يفتح شهيتنا للحديث عن لغة الضاد من أبناء هذا الجزء من العالم العربي.

بالمقابل، نجد أن السعودية تُمسك بزمام المبادرة في الأنشطة المتعلقة باللغة العربية، وهو أمر يستحق الإشادة. فهل هذه الهيمنة تعود إلى قوة المال أو تأثير النفط الذي يمنح الدول القدرة على إيصال صوتها للعالم؟ هذا السؤال يقودني إلى تفكير أعمق حول دور الدول العربية في تسويق ثقافتها وإقناع الغرب بأهمية إرثنا الأدبي واللغوي. كيف يمكن لسفراء الثقافة أن يجعلوا كتبنا التراثية جزءًا من المناهج الأكاديمية في الجامعات الأوروبية؟!

 

 

عندما طرحت هذا السؤال على سفراء الثقافة، أقروا بأن هناك نقصًا في المبادرات الواضحة لتعزيز حضور اللغة والثقافة العربية على الساحة العالمية. ومع ذلك، فإن مجرد الإقرار لا يكفي. نحن بحاجة إلى خطوات جادة وإبداعية لنشر تراثنا وتحديث أساليب عرضه بما يتناسب مع العصر.

أقيمت ندوات متتالية احتفاء بلغتنا العربية باليونيسكو في يوم 18 من الشهر الجاري تحت عنوان “اللغة العربية والذكاء الاصطناعي”، وتحدث الحاضرون عن دور التقنية في حفظ التراث الثقافي واللغوي. لكن، وسط هذه النقاشات، شعرت بأن صوتي يغتصب في هذا المشهد الأحادي الاتجاه. كان الحاضرون، في غالبيتهم، من المشرق العربي، بينما غاب صوت النحويين واللسانيين المغاربيين عن طاولة النقاش.

 

 

وهنا يظهر السؤال الأهم: هل الذكاء الاصطناعي هو المحطة الأخيرة في تطور تفكيرنا؟ وهل يحولنا من أسيادٍ له إلى عبيدٍ لا يعرفون سوى استهلاك ما تقدمه الآلة؟ في عصر نسيطر فيه على التكنولوجيا، أخشى أن ننسى كيف نُفكر بعمق ونُجادل بحكمة.

أطفالنا، الذين يفتقرون اليوم إلى رصيد لغوي غني، مهددون بأن يصبحوا مجرد مستهلكين للمعلومة، لا منتجين لها. في ظل الذكاء الاصطناعي وشبكات التواصل الاجتماعي، يخشى أن تضيع فنون النقاش الحي والجدل العميق، تلك التي أثرت مجالسنا عبر التاريخ. كيف سندافع عن لغتنا وعقيدتنا إذا افتقدنا أدوات التعبير والحوار؟ وكيف نواجه موجات الأفكار المتعارضة إذا أصبحنا نفتقر إلى لغة حية تُجيد الغوص في المعاني والمفاهيم؟

ربما يعتقد البعض أن هذه التساؤلات تصدر عن شخص “يعيش في الماضي” او كما يقول مثلنا الشعبي ” سكة قديمة”، لكنني أقول إن الحذر لا يعني رفض التطور. الذكاء الاصطناعي يحمل بلا شك إمكانيات هائلة، ولكن الخطر يكمن في أن نجعل منه سيدًا بدلاً من أن يظل خادمًا.

إنني أتخيل مستقبلًا يسيطر فيه الهاتف الذكي على مجالسنا، حيث تُستخرج الإجابات من الآلة بدلًا من العقول. في هذا المشهد، أرى انحدارًا للقدرة الفكرية واللغوية التي لطالما ميزت الإنسان. الكتب قد تتحول إلى مجرد رموز صامتة، والألسن قد تختزل إلى أداة تواصل بسيطة تفتقر إلى الحكمة والعمق.

إذا استسلمنا لهذا الواقع، فإن الذكاء الاصطناعي قد يُكمل دائرة الشلل الفكري التي بدأت بشبكات التواصل الاجتماعي ” كان عمش وغادي يعمى”. ولكنه، في المقابل، قد يمثل فرصة تاريخية لتقدم الإنسانية، شريطة أن نحسن استغلاله. يجب أن نعمل على تعليم أبنائنا كيفية التفكير النقدي والإبداعي، وكيفية الاستفادة من التقنية دون أن يُفقدهم ذلك هويتهم الثقافية ولغتهم.

في النهاية، تبقى اللغة العربية أمانة في أعناقنا. علينا أن نحميها، ليس فقط من مخاطر الذكاء الاصطناعي، ولكن أيضًا من غفلتنا. فلا نهضة لأمة بلا لغة، ولا مستقبل لشعب بلا فكر حي ونقاش ثري يُغذي روحه.