بقلم: زكية لعروسي
مع توالي الأعوام، تكشّفت لي فلسفة الكون كأنها منظومة رباعية تُحكم بأركان: الصلصال الذي يحتضن جذورنا ويوثق انتماءنا إلى الأرض، والماء الذي يحمل سر البدايات الأولى ويجدد دورة الحياة، والهواء الذي يغذي أرواحنا بأنفاس لا تنقطع، والنار التي تتوهج بشغف المحبة، لكنها حين تخمد تتركنا نتوه في ظلام الحيرة وجمود الإحساس. ومع كل ذلك، ظل هذا التصور ناقصًا، وكأنه مرآة عاكسة لا تُظهر سوى السطح. فهل تكفي هذه العناصر لتفكيك ألغاز طبيعتنا البشرية؟ أم أن الإجابة تكمن في صراعاتنا الداخلية، حيث تتقلب الموازين بين الفوضى والنظام، الانهيار والاكتمال؟
وفي خضم هذا التساؤل، وجدت نفسي أمام نقاش عميق بين دفتي كتاب الإمام الغزالي “إحياء علوم الدين”. الغزالي لم يخض في الكيمياء أو الخيال، بل اختار لغة الاستعارة ليلامس أعماق النفس البشرية، حيث قال:
“وكل إنسان فيه شوب من هذه الأصول الأربعة أعني الربانية والشيطانية والسبعية والبهيمية وكل ذلك مجموع في القلب.”
هنا يقدم الغزالي رؤية تُمثل الإنسان كمملكة تتصارع فيها أربع قوى، كل واحدة منها تحمل دلالة رمزية:
-الخنزير (الشهوة): وهو رمز الشراهة والطمع، الدافع لإشباع الرغبات دون تفكير. هذه القوة لا تُكبح إلا بتوجيه قوة الغضب ضدها، لتحرّمها من الانفلات.
-الكلب (الغضب): الذي يُجسد العدوانية والرغبة في السيطرة، لكنه يمكن أن يتحول إلى طاقة إيجابية إذا كُبح بالحكمة.
-الشيطان (الإغواء): العقل الماكر الذي يشعل شهوة الخنزير ويطلق غضب الكلب، لكنه يُهزم بنور العقل وبصيرته.
-الحكيم (العقل): السيد المُفترض للمملكة، القائد الذي إذا نجح في السيطرة، قاد الإنسان نحو الخير والصلاح.
تلك القوى ليست غريبة عنا؛ هي نحن ونحن هي. ففي لحظة ما، قد تجدنا خنازير تستجيب لشهواتها، أو كلابًا تنهش في عدوانها، أو شياطين تبتكر الحيل والمكائد، بينما نادرًا ما نرتقي إلى مقام الحكيم، حيث العقل سيد الموقف. الإنسان، كما يصوره الغزالي، ليس كائنًا بسيطًا، بل مسرحًا صاخبًا تتصارع فيه شهوة بهيمية، غضب سبُعي، إغواء شيطاني، وحكمة ربانية. ومصير هذا المسرح يتحدد بمدى قدرة العقل على القيادة. إن نجح، أصبح الإنسان كائنًا ساميًا، يعيش بالعدل والعلم. وإن أخفق، هبط إلى درك الحيوانية، رهينًا لشهواته وغرائزه.
لكن السؤال الأعمق يبقى: هل كنا لنصبح أفضل لو تحررنا من هذه الصراعات وعشنا ببساطة غرائزنا؟
ربما، لكن الحقيقة أن الصراع هو ما يمنح الإنسان هويته. نحن لسنا كائنات غرائزية تمامًا كالحيوانات، ولا كائنات معصومة كالآلهة. نحن بشر تتنازعنا المادة والروح، العقل والطبيعة، وندفع ثمن هذا التناقض.
وفي هذه الجدلية، نجد أن رؤية الغزالي تختلف جذريًا عن رؤية الفيلسوف جان جاك روسو الذي يرى أن العقل، بدل أن يُنير الإنسان، زج به في دوامة التعقيد. يقول:
“الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يتميز بالغباء لأنه استعمل عقله فأعاق نموه الطبيعي.”
روسو ينظر إلى الإنسان البدائي باعتباره كائنًا منسجمًا مع غرائزه، يعيش ببساطة، لكن العقل أدخله في تعقيدات الحضارة. مع العقل جاءت الحروب، والغرور، والقلق. يدعو روسو إلى العودة إلى “الفطرة”، حيث يعيش الإنسان بسلام مع الطبيعة، بعيدًا عن تعقيد العقل.
على النقيض، يرى الغزالي أن المشكلة ليست في وجود العقل، بل في إخضاعه لشهوات النفس وغضبها. فالعقل، إذا تُرك رهينة لهذه القوى، ينحدر بالإنسان إلى مرتبة الحيوان، أما إذا استطاع أن يقودها، ارتقى به إلى مراتب الربانية.
قد تبدو رؤيتا الغزالي وروسو متناقضتين، لكنهما في العمق مكملتان. روسو يرى أن العقل أفسد الإنسان لأنه قاده بعيدًا عن بساطته الطبيعية، بينما الغزالي يرى أن العقل هو الحل، شريطة أن يكون حاكمًا لا محكومًا. العقل عند الغزالي لا يُعيق النمو الطبيعي، بل يُرقّيه إلى مستويات أسمى. ولكن أين نقف نحن اليوم؟
إنسان العصر الرقمي يبدو عالقًا في مأزق أعمق. لا هو ممن يُخضع غرائزه لحكم العقل، ولا هو ممن يعيش بانسجام مع الطبيعة. إنه يلهث خلف استهلاك لا ينتهي، فاقدًا للطموح، بلا هوية واضحة. يعيش كما تعيش الكائنات الأخرى: يأكل، يشرب، يتكاثر، لكنه لا يتقدم ولا يترك أثرًا.
إنسان اليوم مطالب أكثر من أي وقت مضى بإعادة اكتشاف نفسه. عليه أن يُحيي العقل كقوة قيادية تضبط غرائزه، وتعيد التوازن إلى مملكة الصراعات داخله. عندها فقط، يستطيع الإنسان أن ينهض بذاته، وينير العالم بروحه وحواسه.