باريس: زكية لعروسي
أيها القلم الحر، يا من يرتعش بين الأنامل، ها أنت تعود مجددًا لتنسج من شذرات الذاكرة المغربية وروح الوطن قصيدةً مترفةً بعطر الأصالة وسحر البساطة.ها انت تعود بي إلى ذلك الوجدان بعبق البساطة وجمالية الطبع، حيث الحياة تفيض بمعاني الدفء، بلا تصنعٍ ولا زيف.
دعوني أبحر معكم في أجواء تملؤها رائحة الشاي المنعنع، وصوت البراد وهو يغلي بخشوع في حضرة صينية تجمع “الكيسان” بانتظام عفوي. هناك، كان “الزيتون” يتجاور مع “المقروط”، و”كاطو المراشم الوجدي” يحكي قصصًا لا تنطقها الأفواه، لكنه ينقلها صمتًا بألقٍ أبدي، شاهدةً على لحظةٍ تفيض دفئًا، لا بريقًا زائفًا.
إنها لحظات الرجوع إلى أعراسنا المغربية القديمة، حيث كان السر يكمن في الروح، لا في المظاهر الباهتة التي تغرقنا اليوم في جميع انواع الثراء المصطنع، بل في القلوب التي كانت تتلاقى قبل الأجساد. حقا، كان المجمع وليمةً للنفوس قبل أن تغرق في تفاصيل الطعام، وكان العرس سيمفونيةً بسيطةً غنتها الحناجر بدلاً من “الدي جي”. وعرساً للأرواح قبل الأعين. عرفنا كيف نحكي قصصنا في جلسة شاي متواضعة، وكيف ننسج خيوط المودة بكلمة هنا، ونظرة هناك، دون ان نحتاج إلى طاولات فخمة وكؤوس زجاجية باردة لا تحمل سوى ” الانعكاسات “الخاوية والباهتة”، والسن تتباهى لتغرقنا فيما جاد الزمانمن تنافس مقيت ب” فيش عليا نفيش عليك”.
قد يقال لي: الزمن تغيّر، نعم،، ولكن لماذا نمحو ملامحنا بأيدينا؟ لماذا نفرّط في بساطةٍ صنعت ذاتنا وهويتنا؟ الأعراس اليوم أضحت لوحات مكررة، مشاهدَ مصطنعة تُعاد بنفس الرتابة، بلا نبض، بلا روح. كأننا أمام سيناريو كارتوني يعيد نفسه، بلا أي صلة بأصالتنا المغربية، التي كانت تجعل لكل عرس نكهةً خاصةً تُحكى لسنوات. أما اليوم، فالعرس استعراض، وشعار ل”شوفني نشوفك”.
في الغربة، الحنين يحملنا إلى تلك اللحظات النقية التي كنا نعيشها دون تكلف. حين كان “اللمة” صكًّا للفرح الحقيقي، لا صفقة تخضع لحسابات الإنفاق والإبهار. الغربة تعلمنا أن البساطة ليست نقصاً، بل هي مكمن القوة. هي الحنين إلى أصالة لا تعرف الزيف، والإقصاء.
إنها “اللمة”، تلك الكلمة التي مظهرها في قوة بساطتها، إنها لقاءً بين الأرواح في لحظات من الصدق. وانتماء إلى وسط اسري يمنحك الشعور بأنك جزء منه، دون شروط أو بروتوكولات.
عرس بسيط، “بكاطو المراشم والكعك”، يعيدني إلى حقيقة أن “تمغربيت” ليست في زخارف الذهب ولا في الطاولات اللامعة، بل هي في براد شايٍ يحكي كل شيء دون كلام. المغربي هو الذي يعيش الوطن في قلبه قبل أن يسكنه في الجغرافيا، يعرف قيمة هذا الإرث، وبأن القوة في أصالة الروح.
“تمغربيت”، كما أراها وأعيشها، هي قصيدةٌ لا تحتاج قوافٍ، يصنعها عطر الارض، وسحر البساطة . هي “براد أتاي”، وصينية تتشاركها الأرواح، و”ملمة” تفيض دفئًا وحبًا، دون “زواق ولا نفاق”.