بقلم: المصطفى غزلاني
أنصت إلي يا أنت.. أنت، من فتحت الصفحة الآن، ولا يهم أكان الأمر من ملل يومك أو من رغبة اطلاع متكاسلة أو من حب مزمن لقراءة المكتوب.. أريد أن أحكي أشياء تبدو لي أني عشتها وحدي في هذا العالم أو كأنها جُعلت في طريق عمري منذ آلاف السنين.. في حقيقة الأمر عشتها عام 1981. قلت عبارة عام غير أنه ربما كان مكدسا في يوم واحد، يوم 1981. وأكاد أجزم أنه يوم الأحد. يخيل إلي أن كل العالم كان في عطلة. يوم لم أعرف مثله منذ آلاف السنين. طبعا، لا أحد يستطيع أن ينقص أو يزيد في عدد سنيني. هو يوم خاص وحسب. المكان أيضا وبكل أفضيته المتراكبة صار خاصا جدا. والناس، أجل، الناس أيضا صاروا على طباع وفي سحنات متطابقة الاغتراب. صاروا واجمين.. متعبين إثر النظر إلى السماء.
كانت قريتي تدعى «البسابس»!!. لست أدري لمَ وضعوا لها اسما فلا أحد كان يعرف بها أو يعرفها به.. أما ساكنتها فكانوا يعرفون بقبائلهم حتى وإن كانت قبائلهم مستحلبة من الوهم السوسيو- انطرو- تاريخ. وكان منهم من يعرف باسم ابيه وهو يدري أن لا أب له، كانوا كثرا وكثيري التشبث بالأمر.. هكذا، ظل اسم القرية معلقا في صفصاف الطرقات وإن زادوا بعض التخصيصات من باب الغربية والأخرى الشرقية – أجل، كانت مشطورة قريتي.
في عام 1981 أصبحت قريتي رسميا لا تعرف إلا بغيرها وانتهى الكلام.
في صباح اليوم يخرج الناس من أوكارهم وأول ما يقوم به الفرد، ينظر إلى السماء وفورا يسحب النظر لارتطامه بذلك الفراغ المعدني. كانت السماء بابا، كانت موصدة. بمسحة الفضة الصدئة صارت أبعد ما يكون عن كائن الأمل أو الرجاء حتى.
في عام 1981 صارت السماء من غلو نأيها شفافة، نكاد نرى فيها وجه الله في انشغاله الأبدي. في حقيقة الأمر كانت عيون أهل القرية تكاد تلمح وجه الله في السماء الثانية.. تراه هناك مشغولا عنهم بقضايا أعتى من دواجنهم وسوامهم…!!
لهذا، أدركوا سبب تهاون الريح عن حمل قِرب الماء إلى القرية.
في هذا العام تبدل الناس. لم يعودوا هم أنفسهم كما كانوا من قبل. صاروا غرباء عن أرواحهم، عن ذواتهم بل حتى الأيدي صارت غريبة عن بعضها، وكذا العين عن العين والخد عن الخد… في الواقع كل شيء تغير في كائنات القرية. كل شيء صار شاحبا، صغيرا، نحيفا، قصيرا.. وحدها الكلاب تحولت بنيتها على أضخم من العادي، وحدها تستطيع طبيعيا تحويل مآسي القرية إلى ولائم.
تعبت الأرض من ماشيها وتعب الماشون من الأرض. صارت ضيقة كأنها بلا حواف. توقف كل شيء عن كل شيء إلا عن التحول الاستنساخي.. يتحول الديك إلى سبُع لا يقتات إلا على الهوام، يتحول الحمار إلى قرد بدل الركض يدور حول نفسه باضطراب مفرط، يتحول البقر إلى بقايا بلا وجهة ولا أنساب، يتحول الفلاح إلى فلكي يجبذ خيوط الحظ جبذا إلى الغد، تتحول النسوة على خشبة وهن الممثلات وهن الجمهور وهن الديكور.. صارت كائنات القرية لا تغدو وإن غدت فلا أين لها ثم لا تروح. أما اللقلاق الذي جلب لنا التصفيق الصباحي من جهة الأرض الباردة إلى حد سطح الدار، ألفيته منذ سنين قد خلع ريشه ونضده في ما يشبه هالة مضمحلة الحواشي وتخلى عن منقاره وساقيه الحمراوين في وضعية المشي وما تبقى أسلمه للأسفل نكاية بالسماء.
كباقي الأشياء متى ما تموت مرة، تموت ألفا. أنجزت لوحة “موت الطائر” عام 2004 وكانت البسابس ما تزال ميتة.
هكذا ماتت قريتي عام 1981 ألف مرة.