بقلم: سعيد بوعيطة
كثيرة هي الأسئلة التي تطرح بخصوص المثقف العربي اليوم، لعل أبرزها: ما الفرق بين المثقف العربي في عصر النهضة العربية، ومثقف اليوم؟ ما الفرق بين وضعية الثقافة العربية خلال القرنين التاسع عشر و الجزء الأكبر من القرن العشرين، والقرن الواحد والعشرين إلى اليوم؟ وما الذي تمثله كل من اللحظتين في المسار التاريخي العربي؟ وما الذي يجمع بين اللحظتين في المسار التاريخي العربي؟
بين مثقف الأمس ومثقف اليوم
إن ما يجمع مثقفي اللحظتين، كون الأعظم من مثقفيهما في وضعية خاسرة. لأن كليهما ينتميان إلى ثقافة مهزومة وإلى مجتمعات مهزوزة. كل منهما يجد نفسه متورطا أكثر فأكثر في مآزق مجتمعه. لهذا، فإن كل منهما يجد نفسه مضطرا لتوظيف رأسماله الفكري كاملا، في عملية تنوير شاملة، على الرغم من أن ظهورها لا يبدو قريبا. وهكذا، فإن كليهما لا يجد معنى آخر لوجوده، ولهويته باعتباره مثقفا، إلا في المشاركة بفاعلية في عملية النهوض المأمول. إن كلا النموذجين فشل فشلا ذريعا في صوغ وعي عربي دقيق، وصارم اتجاه التحدي التاريخي والجغرافي والحضاري الذي مثله الآخر/الغرب. لهذا، بدلا من ذلك كان الموقف السائد الوحيد هو التشنج العصبي ورد الفعل المرضي الذي جعل من مشروع النهضة في القرن التاسع عشر، محاولة مخفقة ومبتورة الجذور. وهو ما عبر عنه هشام شرابي بقوله كانت اليقضة العربية، في منعطها الحاسم، أسيرة إحساس بالعجز والخوف (المثقفون العرب والغرب، دار النهار، بيروت، 1981).
أما اليوم، فإن المثقف يعيش لحظة تدمر ووصل إلى أكثر المهاوي عمقا. مما جعل الثقافة العربية تنتج أكثر من حالة مرضية من ”العصاب الجماعئ. كما تجدر الإشارة إلى أن هذا المثقف قد اصطدم بما يمكن تسميته بحائط الصد المتمثل في رسوخ البنى الاجتماعية القائمة، ونظام القرابة الموغلة في القدم، ومنظومة المفاهيم وأنماط السلوك اليومي العائدة بمجملها إلى قرون خلت، والتي تمتح مشروعيتها من الجمود التاريخي الذي غرق فيه الوطن العربي. إضافة إلى ذلك حالة ”التذرر الاجتماعي السائدة، والإنقسامات المعلنة والمضمرة التي تنتمي إلى ما قبل المجتمع الحديث. مما يجعل المثقف التنويري الذي ارتطم بهذا الجدار الأصم، لا يجد مناصا من رفع عقيرته مطالبا بالمجتمع المدني دونما كلل منذ الرواد الأوائل وحتى اليوم. حيث نجد أن المجتمع المدني، تكاد تكون الفكرة الوحيدة التي تستقطب المفكرين والمثقفين العرب حولها. إلا أن إجراء تقييم نقدي مقارن بين هذين المثقفين اللذين يفصل بينهما زمن طويل (نسبيا)، سيجعل كفة الميزان تميل في المحصلة لمصلحة الأول، مثقف القرن التاسع عشر والجزء الأكبر من القرن العشرين. فقد سجلت هذه المرحلة إلتصاقا مقبولا لمثقف التنوير بنبض الزمن وإيقاع الحياة وحركة المجتمع العربي. حيث يكفي لتأكيد ذلك مراجعة تلك السرعة التي راحت فيها الأفكار تترجم إلى حركة ذات فاعلية عالية. وذلك بتحولها إلى تيارات وأحزاب وتنظيمات تناضل لتحقيق تلك الفكرة وتجسيدها ممارسة يومية وسلوكا منظما. وضمن هذا السياق يمكن فهم الضجة التي أثارها كتاب الرائد قاسم أمين ”تحرير المرأة لدى صدوره عام 1899. إذ إن المسألة هنا تتمثل في التقاط نبض الزمن وإيقاع حركته. فالفكرة لا تنال استحقاقها وقيمتها الكاملة، إلا بخروجها من الورق وتحويلها إلى مطلب ملح لشريحة ما من المجتمع. وإلا فإن المثقف العربي سيبقى أسير حالة ذهنية بحتة.
مثقف اليوم أسير حالته الذهنية
بعد الهزيمة القاسية التي وصل إليها المجتمع العربي، وبعد إنكسار أحلامه كلها، تعود الثقافة العربية اليوم إلى جدلها البيزنطي العقيم، وإلى اجترار أسئلتها المكرورة منذ قرن التأسيس (القرن التاسع عشر)، وإلى الغرق في مطبات الذهنية الفكرية الخالصة. مما جعل المثقف العربي اليوم، لم يخرج بعد من الأسئلة التي طرحت فيما سبق: الأصالة أم المعاصرة، الحداثة أم التحديث، التقنية أم التقدم الشامل، الغرب أم الشرق، المادة أم الروح؟
تكمن ذهنية هذه الأسئلة في كونها خارج نبض الزمن والحياة، وفي كون الشعوب العربية غارقة في مهاويها وليست في وارد الإجابة عن هذه الأسئلة أو الحماسة لها، وفي كون الزمن تجاوزها. لذلك، لا نجد مؤشرا واحدا يدل على تبني هذه الشعوب لواحد من الخيارات التي يطرحها المثقف العربي عليها. وفي النتيجة تغذو هذه الشعوب العربية في واد والمثقف العربي الذهني في واد آخر. وكل منهما يعيش مهاويه المطبقة. ليتحول المثقف شيئا فشيئا (سواء بإراته أم لا) إلى حالة نخبوية متعالية وشبه سوبرمانية. لهذا، فإن الفجوة القائمة اليوم بين المثقف والمجتمع تشير أول ما تشير إلى خواء الثقافة العربية السائدة ودورانها حول ذاتها وعجزها المفجع. حيث نتج عن هذا الوضع المعقد ظواهر غريبة. كأن تجد مثقفا عربيا يدعو لفكرة ويمارس نقيضها، و مثقفا آخر يضع قدما في السلطة وأخرى في المعارضة، وثالثا لا يجرؤ على الخروج من دائرة العموميات إلى تسمية الأشياء بأسمائها. لأن الشرطي قد وصل إلى داخل العقل العربي، وتغلغل واستقر واستوطن هناك. وبات المثقف العربي يمارس رقابة ذاتية رهيبة على فكره وعقله وأطروحاته. مما قاده إلى حالة من الضباب العقلي وتشويش الأهداف والغرق في الحالة الذهنية التي أشرنا إليها. وبالنتيجة حصلت القطيعة بين المثقف والمجتمع، وفقدت الثقافة العربية جل امتيازاتها، وتحول المثقف العربي اليوم من معالج لأمراض مجتمعه، إلى مريض يحتاج هو نفسه إلى علاج سريع. مما يجعل الزمن العربي لا يسير إلى الأمام قيد أنملة، وأن الوطن العربي، لم ينجز ما عليه إنجازه. لهذا يبقى السؤال المحوري قائما: أي دور للمثقف العربي اليوم؟ على الرغم من تباين الموقف والأراء بخصوص هذا السؤال، فإن واقع الحال يؤشر على أن المثقف العربي اليوم، لا دور له.