بقلم: عبد الدين حمروش
هل يترتب عن الزواج بين الأديبين غنى ما، من حيث مردودية الإبداع بالنسبة إلى كليهما؟ هل يكون السبيل إلى الإبداع، من حيث هو كون وكينونة، الحوار الإيجابي الدائم بينهما؟ ألا تنشأ بين الأديبين الغيرة، حين يدرك الواحد منهما النجاح، ويتخلف عنه الثاني؟ ألا تكون العلاقة قد نهضت، في أصل وجودها، على قدر من الانتهازية، بالنظر إلى احتمال قيامها على الرغبة في استفادة أحدهما من الآخر، تحصيلا لبعض من أسراره في الكتابة، أو علاقاته مع الأوساط الأدبية، والثقافية، والإعلامية؟ كم من أديبة (أو أديب بالمقابل)، انطفأت جذوة الإبداع لديها، بمجرد حدوث الزواج؟ أليس يؤدي زواج الكاتبة من الكاتب، المقتسمين ل “حرفة” الأدب، إلى الملل، بافتراض علوقهما في إسار الحياة المشتركة، وما تستوجبه من روتين يومي وإكراه اجتماعي، هما عدوان شرسان، بحكم الطبيعة، للحرية والإبداع؟ ألا تنطوي الزيجات الأدبية على غير قليل من البؤس، مثل باقي الزيجات العادية الأخرى؟ كيف يضمن الأديب (أو الأديبة) حريته، خارج اشتراطات الحياة المشتركة؟ ما هي الزيجات التي نجحت، باستمرارها تحت “سقف” واحد أولا، وباحتمالها نجاحات أدبية هائلة، بالنسبة إلى كل طرف، على حدة، ثانيا؟ أليست تقع مؤسسة الزواج، في أصل منشئها، على النقيض من مؤسسة الإبداع نفسها، كما يحدث أن نسمع من هذا أو من تلك؟
ما طرح من أسئلة، بخصوص مؤسسة الزواج بين الأدباء، يفترضه التقابل بين واقع الحياة الاجتماعية المشتركة من جهة، وواقع الكتابة الإبداعية الفردية من جهة ثانية. وقبل مقاربة بعض من تلك الأسئلة، نود الإشارة إلى أن عددا من الزيجات الأدبية، التي حصلت بين أدباء وأديبات، ظلت تلفت غير قليل من الاهتمام، من حيث تأثير العلاقة على الإنتاج الأدبي، سواء في أبعاده الإيجابية أم في أبعاده السلبية. في حدها الأدنى، ظلت تلك الزيجات عرضة للأحاديث الشخصية الثنائية، والصالونات الثقافية. ذلك أن في أحايين، لم تكن متابعة تلك الزيجات بأقل مما كانت تشهده زيجات نوعية أخرى، لفنانين في مجالات الغناء والسينما، أو لرياضيين في مجال كرة القدم (مثلا).
تاريخيا، تسجل لنا الوقائع عددا من الزيجات الأدبية، على مختلف الأصعد العالمية، والعربية، والمغربية. لا يمكن استقصاء جميعها، نظرا لتعدد حالاتها ووقائعها. ومع ذلك، يمكن الإحالة، بالمقابل، إلى تلك التي شهدت مآلات مأساوية، مثل ما حدث لفيرجينيا وولف حين انتحرت، مخلفة رسالة إلى زوجها، مؤلف رواية “قرية في الغابة، تقول فيها: ” فقدت كل شيء عدا يقيني بأنك شخص جيد. لا أستطيع المضي في تخريب حياتك، ولا أظن أن أحدا شعر بالسعادة كما شعرنا بها”.
من جهة أخرى، يمكن الإحالة، أيضا، إلى الزيجة، التي ألفت بين الروائي سكوت فيتزجيرالد والروائية زيلدا فيتزجيرالد، وما شهدته من سطو الزوج على كتابات زوجته، إلى أن انتهت الحياة بينهما، بإيداع الأول الثانية في مصحة للأمراض العقلية.
أما عربيا، فيمكن الإحالة إلى معاناة الناقدة والروائية المصرية، رضوى عاشور، والشاعر الفلسطيني، مريد البرغوثي، جراء إبعاد الأخير عن مصر. فبعد الزواج سنة 1970، سيؤدي البرغوثي ثمن معارضته لاتفاقية كامب ديفيد، أي سبعة عشر عاما من المنفى، بعيدا عن زوجته رضوى، وعن ابنه تميم. مأساة فقدان الوطن، سيعبر عنها الشاعر، بعد تخرجه من جامعة القاهرة، على التو، يومئذ: “نجحت في الحصول على شهادة تخرجي، وفشلت في العثور على حائط أعلق عليه شهادتي”. فضلا عن ذلك، لم يتوقع الشاعر أن تشتد المأساة بفقدان حائط الأسرة أيضا، ذلك الذي لجأ إليه، في انتظار تحقيق العودة إلى الوطن.
لم تكن الزيجات الأدبية تؤول مآلات سعيدة، بالضرورة، على غرار ما افترضته الكاتبة لطيفة الديلمي، بقولها في مقال: ” لو تزوج الأدباء من كاتبات لامتلأت الشوارع بالقصص والروايات”. ومع ذلك، فمن المؤكد أن ما يبحث عنه الأديب لدى الأديبة (أو العكس)، هو ما يبحث عنه الرجل لدى المرأة، نظير ما قاله المصري، الشاعر أمل دنقل، للكاتبة عبلة الرويني، في أحد لقاءاتهما الأولى: “يجب أن تعلمي أنك لن تكوني أكثر من صديقة”، ما استدعاها إلى الرد عليه بقوة، مصرحة: “أولا، أنا لست بصديقتك، كما أنني لا أسمح لأحد بتحديد مشاعري متى تتزايد أو تتناقص، إنني وحدي صاحبة القرار في علاقاتي بأصدقائي”. في إثر ذلك، وبوتيرة دراماتيكية، سينقلب الموقف لدى أمل، إلى درجة أن يبوح لعبلة بالآتي: “إنني لا أبحث فيك عن الزهو الاجتماعي، ولا عن المتعة السريعة العابرة، ولكني أريد علاقة أكون فيها كما لو كنت جالسا مع نفسي في غرفة مغلقة”.
حتى حين اعترفت وولف برضاها عن زوجها ليونارد، نتيجة للسعادة التي غمرتها بصحبته، كان مصير العلاقة النهاية المأساوية التي اختارتها الأديبة. هل هذا ما يحصل، فعلا، للعلاقات الأدبية الرفيعة؟ أن تذهب إلى أقصى مصائرها فجائعية، وإلا الرضى بالطلاق، على الأقل، في النهاية (كأهون الشرين)؟ ونحن نتناول موضوع الزيجات الأدبية، تحضر الذهن أمثلة كثيرة، ممن اقترن من أدباء بأديبات. عربيا، يمكن التمثيل لذلك بعلاقة محمد الماغوط بسنية صالح، أو علاقة أدونيس بخالدة سعيد، أو أمين الخولي بعائشة بنت عبد الرحمن. أما مغربيا، فيمكن التمثيل بعلاقة أحمد المديني بخناثة بنونة، أو سعيد الباز بلطيفة باقا. ويمكن أن نستمر في تعديد هذه العلاقات، التي باتت تفوق العشر اليوم. غير أن معظمها آل إلى الطلاق، لأسباب وجودية لها علاقة بشرطي الحرية والندية، أو لأسباب أخرى أتينا على ذكرها آنفا (مثل الغيرة). بالنسبة إلى العلاقات التي آبت إلى سطح الذاكرة، والتي أتينا إلى عرض أمثلة منها، كان البطلان الرئيسان فيها أديبين صرفين (ليسا ناقدين أو باحثين في الآداب والعلوم الإنسانية مثلا). التنبيه إلى هذا التمييز ضروري بخصوص طبيعة تناولنا للموضوع.
في سياق آخر، يمكن لفت الانتباه إلى أن هناك فرقا واضحا، بين أن تقترن الأديبة بأديب، وقد تكرست مكانتهما الأدبية قبل الاقتران، وتقترن “أديبة” بأديب آخر، ولم يعل لها كعب، إلا بعد حصول الاقتران (والعكس صحيح ولو أنه نادر). الكتابة عدوى من هذه الناحية، وبخاصة بالنسبة إلى الموهوبات، ممن كن ينتظرن فرصة انقداح شرارة الكتابة (وغالبا ما تحين الفرصة عبر الاقتران بالأديب). غير أن الولوج المفاجىء إلى باحة الأدب، والتعرض إلى إغراء تياراتها الرمزية والمادية، أفرزا لنا أديبات أخريات بدون سابق إنذار (أي بدون تاريخ أدبي سالف). واليوم، بتنا نشهد على صعود أديبات (متعددات في ممارساتهن الكتابية) في أول ظهور لهن، بما صرن يحظين به من متابعات إعلامية، وما يتوجن به من جوائز، في هذه المناسبة أو تلك.
يمكن التوسع في تحليل الزيجات الأدبية بالمغرب، مثلا، على أكثر من مستوى، من حيث خلفيات الأزواج، حصائلهم الأدبية، درجة انتشارهم الثقافي والإعلامي، مظاهر التأثر والتأثير في ما بينهم، إلخ. غير أن الموضوع، على أهمية الجوانب التي يمكن إثارتها فيه، لا يسمح بأكثر مما طرحنا من أسئلة، بحكم البنية الاجتماعية- الثقافية المحافظة السائدة. وحتى بالنسبة إلى الحداثيين، فإن تناول الموضوع لا ينبغي أن يتجاوز حدودا معينة، بحكم التحفظ المحاط به، والمفترض لدى أغلبهم. أين تبدأ الخصوصية، وأين تقف، سؤالان لم يطرحا، حتى الآن، في ما يتعلق بتناول هذا الموضوع. ولذلك، فإن غير قليل مما كان يتداول عن “الكوپلات” همسا، لايمكن الجهر به على الإطلاق، بله نشره.
في الأخير، يمكن طرح السؤال حول زيجات أخرى، لم يقترن فيها الأدباء (ذكرا كان أم أنثى) بالطرف الثاني، ممن هو ليس بأديب. ما من شك في أن هذا النمط من الاقتران هو الغالب. هذه ملاحظة عامة، يمكن الاطمئنان إلى صدقيتها، على الرغم من غياب جرد في هذا الباب. ومع ذلك، فإن ما يمكن إثارته، هنا، هو طبيعة العلاقة، أي حين يكون طرف من الزوجين أديبا والآخر ليس كذلك. كيف يبدع الأديب في ظل هذه العلاقة، وبخاصة حين لا يكون للطرف الثاني أي علاقة بالأدب؟ هل يسمح له هذا النمط من العلاقة بالإبداع أكثر وأفضل؟ هل يحتاج الأديب إلى من يقرؤه في البيت، قبل أن ينتشر عمله لدى القراء؟ يمكن مواصلة طرح مثل الأسئلة، كما فعلنا بالنسبة إلى النمط الأول. لكن أفضل ما يحسن التطرق إليه، في سياق البحث عن المأساوي في العلاقة، هو الاستشهاد بما جرى لسقراط مع زوجته، وقد كان يشكو منها، ومن لسانها: “أنا مدين لهذه المرأة. لولاها ما تعلمت أن الحكمة في الصمت”. سؤال الإبداع مقترن بسؤال السعادة. فأي من الكوپلين الأكثر إبداعا، و الأكثر سعادة؟