خاص.. الناقد الأدبي سعيد بوعيطة يكتب عن «الحوريات» لكمال داود… سرد جحيم العشرية السوداء

بقلم: سعيد بوعيطة

 

كثيرة هي ردود الأفعال التي أثارتها الرواية الأخيرة المعنونة ب “الحوريات”، للكاتب الفرنسي ذي الأصول الجزائرية كمال داود، الصادرة في طبعتها الأولى عن منشورات دار غاليمار 2024 (فرنسا)، والحائزة على جائزة غونكور الأدبية لهذه السنة. وقد وصف رئيس الأكاديمية الفرنسية هذه الرواية بكونها تتنافس فيها القصائد الغنائية مع بعد مأساوي، وتعبّر عن العذابات المرتبطة بفترة مظلمة من تاريخ الجزائر، وخصوصا ما عانته النساء. فعلى الرغم من إحتفاء الأوساط الثقافية الغربية (خاصة الفرنسية منها) بهذا التتويج، فإن أغلب ردود الأفعال الأخرى (خاصة الجزائرية)، جاءت عبارة عن حملات شرسة في بلد الروائي الأم منذ إعلان اسمه باعتباره واحدا من أقوى المرشحين لنيل هذه الجائزة. يرجع ذلك في أغلب الأحيان إلى أن الكثيرين من منتقدي الروائي، يربطون موقفهم بمضمون الرواية والفترة التي تناولتها.

تطرقت الرواية الفائزة، لفترة الحرب الأهلية في الجزائر فيما بين 1992 و 2002 التي يطلق عليها “العشرية السوداء”. وهي الفترة التي يرى البعض أن السلطات في الجزائر تريد طي هذه المرحلة التاريخية حتى على مستوى التخييل (الرواية). فهل من المنطقي طمس هذه المرحلة، على الرغم من كونها تشكل جزأ من تاريخ الجزائر؟

ما هكذا تورد الإبل

حين احتد النقاش حول رواية الحوريات من قبل المثقفين وغير المثقفين الجزائريين في مجموعة من المنابر الإعلامية، طالت انتقاداتهم فرنسا كذلك. إذ ربط المنتقدون منح كمال داود هذه الجائزة ، بأسباب سياسية محضة. لكن في المقابل، أشاد كثير من الجزائريين، بما حققته رواية كمال داود (ابن مدينة مستغانم الجزائرية)، وأن هذه الحملة العشواء التي طالت الروائي لا تخرج عن كونها غيرة من النجاح الذي حققه الروائي خارج وطنه. وقد وصل هذا التهجم إلى حد منع الجزائر حضور دار النشر غاليمار التي أصدرت الرواية إلى الجزائر للمشاركة ضمن فعاليات معرض الكتاب الدولي الحالي (بين 6 و 16 من شهر نوفمبر 2024). تعد هذه الرواية، ثالث رواية لكمال داود، والأولى التي تصدر عن دار غاليمار للنشر. كما أشار الروائي في هذه الرواية، إلى أن القانون الجزائري يحظر أية إشارة في الكتابات إلى الأحداث الدامية التي وقعت في هذه العشرية السوداء، وهي الحرب الأهلية بين السلطة والإسلاميين بين عامي 1992 و 2002، وقد سبق أن تناولها الضابط السابق في القوات الخاصة بالجيش الجزائري حبيب سويدية في كتابه الحرب القذرة. لكن إذا كانت هذه المرحلة مرحلة مظلمة من تاريخ الجزائر، فإنها تشكل مرحلة من مراحل هذا التاريخ. شأنها في ذلك شأن المراحل المشرقة، باعتبارهما يكونان ذاكرة الوطن. والروائي كمال داود، له الحرية في توظيف هذه المرحلة في روايته، كما وظف آخرون مراحل تاريخية أخرى (واسيني الأعرج على سبيل المثال).

”الحوريات وإعادة سرد ”العشرية السوداء”

متى بدأت الحرب الأهلية الجزائرية (العشرية السوداء) التي أدمت الجزائر منذ أكثر من عقدين؟ متى إنتهت؟ وكيف؟ مَن كان وراءها؟ مَن تصارع فيها؟ وعلى ماذا تم الصراع؟ كم عدد ضحاياها؟ هذه الأسئلة المعلّقة، والممنوع طرحها في وطنه/الجزائر، منذ ما عرف المصالحة الوطنية، أعاد الروائي كمال داود بناء هذه العشرية السوداء من خلال رواية “حوريات” بواسطة المونولوج الذي جاء على لسان شخصية شابة جزائرية. تتوجّه من خلاله حوارها الذاتي إلى الجنين (أنثى) الذي في بطنها، بغية سرد قصّتها له، وتبرير قرارها وضع حد لنموه داخل أحشائها. لهذا، فجاء السرد الروائي عبارة عن مونولوج صادِم وطويل. يستحضر الروائي كمال داود في ثنايا العملية السردية (من خلال الشخصية المحورية) “قانون الرحمة” الذي صدر في وطنه عام 1995 ووفّر لآلاف الإرهابيين المسلّحين الذريعة كي ينزلوا من الجبال، ليغسلوا أيديهم من كل دماء الأبرياء التي لطختها. كما يستحضر أيضا الاستفتاء الذي نُظِّم في 29 سبتمبر/ أيلول 2005 للعفو عمّن تبقى من هؤلاء القتلة، ضمن ما يُعرف بـ”المصالحة الوطنية”، وكان في الواقع بمثابة” يوم تصالُح القتلة مع القتلة”، بحسب شخصية والدة فجر(إحدى شخصيات الرواية).

كما أشار الروائي إلى “ميثاق السلم والمصالحة الوطنية” الذي تضمّن تهديدا واضحا بمعاقبة كل من يجرؤ على إتهام أولئك المعفى عنهم بالجرائم، وبالسجن من ثلاث إلى خمس سنوات لـكل من يستعمل، من خلال كتاباته أو أي عمل آخر، جراح تلك المأساة الوطنية. فكانت بمثابة قوانين أنقذت القتلة من أية محاسبة، وحرمت الضحايا وعائلاتهم من سُبُل إظهار الحقيقة وإقرار العدالة. لهذا لم يعد أحد كما يقول السارد (الروائي الضمني): “يريد تذكّرنا فُرِض علينا الشك بذاكرتنا. لم يضمد البلد جراجه، بل محاها وحوّلها إلى شكوك، ثم إلى مجرّد ريح عابرة. كثيرة هي التفاصيل التي قدمتها رواية كمال داود بنوع من الدقة والجرأة. لكن ما يتعذّر تغافله هو تاريخ 31 ديسمبر /كانون الأول 1999 الذي حدّده الروائي كمال داود فيما يشبه الخاتمة أن الحرب الأهلية الجزائرية، لسبب وجيه بقدر ما هو رهيب.

يقول السارد (الشخصية المحورية/الفتاة): “في ما بعد، سُجّلت بعض الهجمات وعمليات القتل، كأنها وقعت لكسر الجمود، كأن حيوية القتل نفدت، أو فقط لأن الحقيقة لم تكن قد بلغت عمق عقول بعض القتلة في الغابات. لعل الإرهابيين أدركوا بالغريزة أنه لم يعد ممكنا الذهاب إلى أبعد من ذلك في القتل، فتوقّفوا عن ممارسته كمهنة”. أما عن عدد ضحايا حربهم مع العسكر، فنعرف من شخصية فجر أن “الصحف تحدّثت في البداية عن 50 ألف قتيل، ثم عن 150 ألفا، فعن 200 ألف”، قبل أن تلمّح إلى أن الحقيقة يمكن أن تكون أشنع من ذلك بكثير، لأن الأرقام تتحلّل، مثل الجثث أو الأمواح. كل هذا يبين أن الرواية تغوص في جحيم حرب همجية أكثر منها أهلية. مما يجعل القارئ يعاني أثناء قراءتها من شدة الصعوبة في التقاط أنفاسه، نظرا إلى هول ما يضعه السرد الروائي من أحداث تحت أنظاره. و لغة السرد التي شحذها الروائي كمال داود. فجاءت لغة حسّية مشحونة بصور شعرية صاعقة.

ذاكرة للنسيان وأخرى للتذكر

رواية كمال داود ليست خيالية بل واقعية (تاريخية)، تتميز بسرد عنيف. يستند إلى رعب تلك العشرية التي لا مبالغة في نعتها بالسوداء. فمنذ صفحة الرواية الأولى، تقود القارئ نبرة شخوصها وبوحهم ومضمون سردهم، بتفاصيل قصتها المؤلمة، وبجرأتها في الوقوف منتصبة في وجه أولئك الذين سيسعون عبثا إلى ترهيبها وتكميمها. وكأن ما حصل للشخصية الرئيسية على أيديهم لم يكن كافيا. بكماء ومشوّهة في جسدها. لكن الروائي أرادها هكذا. كي تؤشر على عشرات آلاف النساء والرجال في الجزائر الذين خضعوا للمصير نفسه (الذبح)، لكن لم يحالفهم الحظ بالبقاء على قيد الحياة، مثلها.

كما تشكّل أيضا استعارة رهيبة لملايين الجزائريات المحكوم عليهن بالصمت والعيش في ظل رجال يحلمون بنساء خياليات (الحوريات) (عنوان الرواية)، ويكرهون الحقيقيات. بهذا، تشكل المرأة رمزا لمجتمع مطلوب من أبنائه أن يفقدوا ذاكرتهم الجماعية (ذاكرة المجتمع الجزائر). مما يقود قارئ الرواية إلى نقطة أخرى مهمة في رواية “حوريات”. تتجلى في المقارنة المريرة التي تجريها شخصية فجر مرارا بين المزايدة في التذكّر، حين يتعلق الأمر بحرب التحرير(الاستعمار الفرنسي)، والجهد المبذول لتناسي ما حصل خلال الحرب الأهلية. فتشير الشخصية في سياق هذه الملاحظة، إلى انعدام وجود شارع أو زنقة أو ساحة في وطنها لا تحمل اسم مُجاهد أو معركة أو مأثرة من الحرب الأولى، بينما لم يحظ ضحايا الحرب الأخرى بنصب تذكاري واحد، ولا حتى بكتيّب يجمع حفنة شهادات حولهم، أو يوثّق لما اقتُرف بحقهم. فهل هناك ذاكرة للنسيان (ذاكرة العشرية السوداء) وأخرى للتذكر (ذاكرة مقاومة الإستعمار الفرنسي)، على الرغم من أن الوطن واحد؟ إذا كان هذا السؤال يحتمل أكثر من جواب، وقد يسيل المزيد من المداد، وربما قد يجد ما يستسيغه خارج رواية كمال داود، فإن القول الفصل للمواطن الجزائري.، ما دامت الذاكرة واحدة، والوطن واحد.