الإستوزار ولعبة الكراسي

بقلم: سعيد بوعيطة

من منا لا يتذكر لعبة الكراسي المرتبطة بمرحلة الطفولة. تبدأ بعشرة لاعبين وتسعة كراسي. تُنظم على شكل دائرة يقف اللاعبون خارجها، ويتولى شخص تشغيل قطعة موسيقية مسجلة، بينما يدور اللاعبون حول الكراسي طوال عزف الموسيقى. ثم يتوقف العزف فجأة، وعلى كل فرد من اللاعبين أن يجلس على أقرب كرسي إليه، واللاعب العاشر الذي لا يجد كرسياً له، يخرج من اللعبة. ويتكرر العزف والدوران مع إبعاد اللاعب الواقف وأحد الكراسي، إلى أن يبقى كرسي واحد ولاعب واحد يكون الفائز في اللعبة.

على الرغم من أن هذه اللعبة تبدو بسيطة في ظاهرها، فإنها تحمل أبعادا اجتماعية، سياسية، ثقافية وحضارية. لهذا، تتكرر في مختلف الثقافات والحضارات. خاصة عند الشعب الياباني. فما أوجه التباين بين لعبة الكراسي العربية، ومثيلتها عند اليابانيين؟

بين لعبة الكراسي العربية واليابانية

لعبة الكراسي التي لعبناها في طفولتنا، يلعبها كذلك أطفال اليابان، لكن بـثقافة ووعي مغاير، تعكس نهجهم الاجتماعي (الحضاري). فإذا بقي أحد الأطفال اليابانيين بلا كرسي يخسر الجميع، وليس الطفل الواقف وحده هو الخاسر. لذا، على الأطفال العشرة احتضان بعضهم بعضاً ليجلسوا جميعهم على الكراسي التسعة. ثم يبدأون بتقليص عدد الكراسي، مع استمرار الموسيقى أو التصفيق، واحتضان بعضهم بعضاً، من دون أن يبقى أحدهم واقفاً لكي لا يخسر الجميع. وفي نهاية اللعبة يجلس الجميع على الكرسي الوحيد.

إذا كانت هذه اللعبة في صيغتها العربية، تُعلمنا منذ الطفولة المبكرة أن يستأثر واحد بالفوز، فإن النسخة اليابانية تعلم الطفل الياباني أن النجاح جماعي، ولا نجاح دون أن يساعد الواحد الآخر على النجاح. لهذا، تعلم الأوروبيون حكمة هذه اللعبة من الشعب الياباني في إدارة أوطانهم، بينما تعلم الأميركيون في القارتين الشمالية والجنوبية اللعبة من العرب والأقوام المشابهة. مما يستوجب على الناخبين والمرشحين في أي بلد أوروبي أن يفوزوا في الشارع لخدمة بلدهم، وتتم عملية تسليم مقاعد المسؤولية بكل سلاسة واحترام. بينما الأميركيون، مثلنا نحن العرب، يظلون يتبادلون الاتهامات بعد إعلان نتائج الانتخابات، بالتزوير أو الاستبداد أو أي تهمة جاهزة، من تاريخ إعلان نتائج الانتخابات إلى الانتخابات اللاحقة. حيث يستأثر في النهاية واحد بالكرسي الوحيد، في حين يقف الخاسرون على الرصيف الخاص في إنتظار لعبة الكراسي القادمة. فإلى متى يظل السياسي العربي ينتظر لعبة الكراسي؟ ألا تستهويه كراسي حدائق فيلاته الفخمة، وكراسي منتجعاته الخاصة؟ لكن على الرغم من إلتماسنا لهذا السياسي سبعين عذرا كما قال بذلك جعفر بن محمد الصادق (حسب أغلب الروايات)، فإن نيته غارقة (كما يقول المثل المغربي).

الاستوزار ولعبة الكراسي

لا يخرج مسؤول حكوميّ عربي من منصبه نتيجة تحمّله لمسؤوليّة إداريّة و أخلاقيّة، أو باستقالةٍ من ذاته عن طيب خاطر، حتى لو بلغ أرذل العمر، أو وقعت كارثة (وما أكثر الكوارث) في وزارته أو في المؤسسات التابعة لها. لأن إغراء الكرسي الحكومي، ووهج السلطة في العالم الثالث، يحمل معه طعماً لا يقاوَم، وسيلاً من الامتيازات مما يسيل له لعاب حتى بعض رجال المعارضة السياسية الذين لا يلبثوا أن يهرولوا بمجرّد الإشارة لهم بالسبّابة، لما قد يغنيهم عن الكدّ و التعب في كسب المال والجاه. إلا أنه و في كثير من حلقات لعبة الكراسي الشّاغرة حول الدائرة المستديرة التي يتداورون فيها اللف والدوران والاستوزار، و يجلسون عليها فواراً بمجرد انطلاق صافرة صاحب الصافرة، يكون من المستوجب خروج مشاركين في اللعبة لإجلاس غيرهم بدلاً منهم، بسبب عدم الرضى الذي يطال أحدهم أو يطال مؤسسته أو وزارته. لهذا، فالمسؤول الذي يجد نفسه بلا كرسي، يركن إلى الراحة مع بعض العتب على اللاعبين الذين ضحوا بمقعده، و يتجمّل بالصبر انتظارا لدعوته مرة أخرى للدخول إلى لعبة كراسي جديدة. لكن إذا طال انتظاره انقلب من عاتبٍ إلى حانق على رفاقه الذين جلسوا على المقاعد بدونه. ليجد نفسه من باب الإنصاف يتحدث عن السّلبيّات الموجودة، و التي كانت غائبة عن ناظريه أيام جلوسه على الكرسي.

التعديل الحكومي ولعبة الكراسي

بعد انتظار طويل، تعرّف المغاربة على تشكيلة التعديل الحكومي. لهذا، بات عليهم إنتظار حكومة ثانية (حكومة معدلة) منتصف كل ولاية تشريعية، بدون مناسبة ولا مبرر في ميزان القوى وتوافقات الأحزاب. كما لو أن المغاربة لا يعرفون أن هذه المؤسسة لا تغيّر شيئا من واقع الحال، وأن كل من سيعيّن فيها، بصرف النظر عن انتمائه الحزبي أو لونه السياسي أو انحداره الاجتماعي، سينخرط في تنزيل ما هو مسطّر ومقرّر سلفا. حيث تتغير الأسماء، لكن لعبة الكراسي ستظل اللعبة نفسها. سيبدأ المستوزرون الجدد في ترتيب مكاتبهم ودواوينهم وتسلّم المهام من أسلافهم. وقد ينطلقون من الغد القريب إلى إخبار المغاربة بكل ثقة أنهم مقتنعون بكل ما سطّر سلفا، وأنهم بصدد ترجمة رؤى وتصوّرات وأحلام وتمثلات لم يشاركوا في تحضيرها ولا صياغتها ولا هندسة بنودها. وعلينا نحن الشعب (شئنا أم أبينا) أن نصدّقهم وربّما نصفّق لهم. لعل خير مثال في هذا الشأن، التغيير الذي طال وزارة التربية الوطنية، حيث تمت إقالة الوزير السابق، صاحب مشروع “المدرسة الرائدة”، والذي كان يُفترض أن يقود إصلاحا تعليميا جذريا. فقد تم تصوير هذا الوزير على أنه الرجل الذي سيحدث نقلة نوعية في التعليم، لكنه وجد نفسه خارج الحكومة. وكأن مشروع “المدرسة الرائدة” الذي تبناه، قد يتحول إلى تلك المدرسة المفقودة، التي يبحث عليها المواطن بالريق الناشف كما يقال. لأن الاستوزار من خلال لعبة الكراسي، يفتقد إلى منهج الاستمرارية في العمل خدمة للبلاد والعباد. مما يجعل المواطن يعتاد على رؤية تلك المشاريع الطموحة تتبخر في الهواء.

من هذه الزاوية، تبدو التعديلات الحكومية الأخيرة بمثابة ترضيات سياسية. كل حزب خرج بشيء يرضيه، وكل طرف حصل على نصيبه. ارتبطت العملية بالترضيات السياسية، والتدوير الحزبي، ومنطق القرب من دائرة الحكومة. ولعل ما يبرز مسألة الترضيات، إضافة مسؤوليات وحقائب جديدة من أجل استوزار شخصيات أخرى لترضيتها، مع ما يجره ذلك من مصاريف ونفقات إضافية ضخمة. كما حكم هذه التعديلات، منطق التدوير(لعبة الكراسي) داخل الحزب الواحد. فقد احتفظت الأحزاب بحقائبها وغيرت الوزراء (الأشخاص). ما يعني الاستمرارية بنفس المنطق في تدبير الشأن العام. وهذا ما يطرح التساؤل حول جدوى التعديل. خاصة وأن من بين الوزراء الجدد من كانت عليه ملاحظات عدة في تسيير الشأن العام. كما تجلت السمة الأخرى التي طبعت التعديل، في مدى القرب من دائرة الرئاسة، فبعض الشخصيات التي استوزرت تدور في هذا الفلك (فلك الإمتداد الإقتصادي)، وكأن التدبير الحكومي يشبه تدبير شركة معينة. خاصة وأن بعض من استوزر بعيد عن التخصص، ولا تجمعه رابطة مع القطاع الذي تولاه (التربية الوطنية والصحة،…الخ). خاصة تلك القطاعات الحساسة التي تراكمت مشاكلها في الآونة الأخيرة. وإذا كان الاستمرارية في التنمية هو أساس كل إصلاح، فإن الإستوزار الذي يستند إلى لعبة الكراسي، يجعل المواطن ينتظر الإصلاح الذي يأتي وقد لا يأتي. أما إذا ابتلي الاستوزار بلعبة الكراسي، فعليه بالصيغة اليابانية للعبة، وذلك أضعف الإيمان.