بقلم: ذ. حسن طويل *
قام المنسى موسى، إمبراطور مالي سنة 1324م، بتنظيم رحلة إلى مكة قصد أداء فريضة الحج. ورغم دوافعها الدينية، فهي تشير إلى العديد من التساؤلات: فهل كانت حبا في الشهرة أو عملية إشهارية لربط علاقات مع شركاء جدد للتخلص من التبعية التجارية للمغرب وضرب الوساطة التي طالما مارسها المغاربة بين شعوب الشمال وبلاد السودان؟
يذكر محمود كعت، صاحب تاريخ الفتاش، دافعا آخر يبدو غريبا نوعا ما، ويتمثل في أن المنسي موسى كان سببا في وفاة والدته أثناء ولادته. ومن أجل التكفير عن خطيئته، تصدق بأموال ضخمة، وعزم على الصيام ما تبقى من عمره. إلا أن أحد العلماء المحيطين به أفتى عليه بزيارة مكة وأداء فريضة الحج، وهو المشهود له بالتدين والعدل وإقامة الشرع وحسن السيرة. لقد وصُف بكونه مالكيا متشددا حارب الممارسات غير الإسلامية التي كانت تسمح بها العادات والتقاليد المحلية.
برجوعنا إلى المصادر، نجد أن التواريخ المحلية تسهب في الحديث عن هذه الرحلة وكيفية التهيئ لها، وعن ضخامة القافلة والعدد الكبير للأفراد المرافقين لها. وتتحدث بتفصيل عن حمولتها الضخمة وعن جميع مراحلها. بالطبع، هي أوصاف لا تخلو من مبالغة، ويجب أخذ المعلومات والأرقام بنوع من الحذر، لكنها تبين مدى الثروة والجاه والشهرة التي أصبحت لبلاد السودان خلال عهد هذا السلطان، الذي تعتبره الدراسات أغنى شخص في التاريخ.
في طريقه، توقف موكب منسى موسى بالقاهرة، حيث مكث بها حوالي ثلاثة أشهر. وقد نقل لنا ابن فضل الله العمري هذه الزيارة بنوع من التفصيل، حيث اعتبر هذا الموكب من أروع مواكب الحجاج التي وفدت على مصر. وركز على مظاهر الترف والجاه التي كان السلطان محاطا بها، بالإضافة إلى الإسراف والمبالغة في البذخ، وتحدث عن الأرباح والمكاسب التي حققها تجار القاهرة من هذه الزيارة. لقد أدت هذه الانتعاشة التجارية إلى تراجع قيمة الذهب في مصر، “فقد كان الذهب مرتفع السعر بمصر إلى أن جاؤوا إليها في تلك السنة … فمن يومئذ نزلت قيمته ورخص سعره، واستمر على الرخص إلى الآن … لكثرة ما جلبوه من الذهب إلى مصر وأنفقوه بها”، فسجل بذلك أول انهيار للبورصة في التاريخ.
شكلت الفترة التي قضاها منسى موسى بمصر مناسبة لأخذ فكرة عن الأجواء الدينية بالقاهرة، خاصة وأنه قضى بها شهر رمضان وحضر فيها العديد من الاجتماعات واللقاءات، كما قام بزيارة السلطان المصري الناصر محمد. ويسجل ابن فضل الله العمري أنه لم يكن يتحدث إلا بترجمان رغم إجادته للغة العربية، وكانت ردود فعله رافضة للعديد من المطالب، خاصة وأنه كان يردد: “أنا جئت لأحج، لا لشيء آخر، لا أريد أن أخلط حجي بغيره”.
لقد خصص لمنسى موسى استقبال رسمي بوصفه سلطانا لدولة مالي، فحظي ببروتوكول عالي المستوى، ووضعت رهن إشارته شخصيات هامة لمرافقته. بعد ثلاثة أشهر، التحق المنسى ومرافقيه بقافلة حجاج القاهرة، والتي كان يقودها أمير الحج. ورغم قلة المعلومات حول إقامتهم بمكة، فإن ما جاء في تاريخ الفتاش يفيد أن قافلة السودانيين كانت من أضخم القوافل المتجهة لمكة، إذ كانت تحتوي على أربعين ألف حمولة من الذهب. وتفيد المصادر الأخرى، خاصة ابن خلدون، أن عودة المنسى من الحج كانت كارثية حيث توفي ثلث الحجاج بالصحراء. أما الباقي فقد وصلوا إلى القاهرة حيث مكثوا بها طويلا، وذلك لنقص الذهب الذي تم إنفاقه على شكل هبات وهدايا، مما حتم على منسى موسى الاقتراض مقابل فوائد كبيرة. بل إن المنسى، ومن أجل مواجهة الديون، أقدم على رهن القصر الذي كان قد أهداه له السلطان الناصر.
تسجل المصادر أن منسى موسى حمل معه أثناء العودة عددا كبيرا من كتب المالكية، واصطحب العديد من العلماء والفقهاء والأشراف وأصحاب الديون. إذا كانت القافلة التي عادت من الحج قد تقلصت بفعل النقص الحاصل في عدد العبيد وكذلك النزيف الذي عرفه الذهب، فإن رجوعها لم يخل من أهمية، حيث يشير صاحب تاريخ الفتاش إلى قيام المنسى ببناء العديد من المساجد بكل مكان مر به، مما كان له دور في انتشار الإسلام ببلاد السودان. فهو، حسب العمري، من “بنى به المساجد والجوامع والمواذن، وأقام به الجمع والجماعات والأذان”.
كانت حصيلة الرحلة إيجابية بكل المقاييس على جميع المستويات. فقد كان للثروة والهالة التي رافقتها دور كبير في انفتاح السودان على الخارج، فقد أصبح لمالي شهرة واسعة النطاق بالمشرق. أكثر من هذا، فقد وصلت شهرتها إلى أوروبا، فالخرائط التي وضعت في أواسط القرن الرابع عشر الميلادي لم تغفل هذه الإمبراطورية وسلطانها الذي أشير إليه كأغنى وأنبل ملك في العالم. ولم يعد ينظر إلى هذه البلاد كفضاء للتجارة والتبادل، بل كدولة لها مؤسسات ولها موقع على الساحة الدولية.
*كلية الآداب والعلوم الانسانية الجديدة