العصامية: جغرافية المفهوم (بقلم: مصطفى غزلاني)

  • بقلم: مصطفى غزلاني

جهة المفهوم:

أولا يحلو لي إبداء هذه الورقة بما تستقيم به البداية أي ما معنى العصامية كلفظ وعبارة؟

لعل الشاهد في هذا قول النابغة الذبياني في مدح حاجب النعمان بن المنذر وكان اسمه عصام بن شهبر الجرمي يقول الشاعر:

نفس عصام سوّدت عصاما وعلمته الكر والإقدام

وجعلته ملكا هماما فتعالى وجاوز الأقوام.

من هنا صار اسم عصام مضرب المثل في الإقدام والعزم في الأمور، وكما جاء على لسان الحجاج بن يوسف الثقافي مخاطبا أحد الوافدين عليه بالقول: أعصامي أنت أم عظامي؟  وكان يقصد هل بنا نفسه بنفسه أم بناها بالاعتماد على ما تركه الأجداد والآباء. هكذا تحول لفظ عصام من لقب إلى صفة بإضافة ياء النسبة تم إلى اصطلاح يحمل من المعاني الكثير ويقابله في اللغة الفرنسية Autodidacte عصامي وAutodidaxie عصامية وautodidactisme النزعة العصامية إلا أنه مع قليل من التركيز نجد أن Autodidacte تتكون من شقين: auto وفيها كل ما يحمل معنى الاكتفاء والاعتماد على الذات في إنتاج أو تلقي فعل ما.. وشق ثان: didacte أي أن المجال الديداكتيكي أي نقل المعلومة، يضل هو مجال الحصر والتحديد بينما في عبارة عصامي تتعدى ذلك إلى مجال التجربة..

 

 

العصامية والمجال التشكيلي:

ندرك جميعا وبنسب متفاوتة أن التعريف الذائع للعصامي: هو الشخص الذي لم يتلق دراسة في مجال انتاجه وكون نفسه بنفسه مع شرط النجاح. شخصيا اقتنع بهذا التعريف بكثير من التجاوز والسذاجة. لكن حين يتوقف التعريف على صيغة: هو الشخص الذي لم يتلق دراسة في مجال انتاجه. يساورني شك في نية المتحدث بهذا. أما حين يقتصر التعريف على القول: العصامي هو الذي لم يتلق دراسة.. ( ما قاريش) . طبعا، تصير الحكاية ذات مكر خاص. نظرا لما تحيل عليه من دلالة الأمي والجاهل و.. و.. في الوقت الذي كان ينبغي الاحتفاظ بالتعريف إيجابا كالقول: العصامي هو الذي اعتمد على نفسه ونجح.

بهذا أصل إلى مربط الفرس.

أولا ينبغي تصنيف الفنان والتشكيلي بالخصوص، على ثلاث طبقات:

وقبل الخوض في التصنيف أريد تحديد شيئين اثنين:

أ – حين أستعمل عبارة فنان في تصنيف ما، لا أقصد شخصا معينا و إنما حالة أو صيغة وجود.

ب – أن هذه التصنيفات غير بريئة أعلن الأمر مسبقا.

الطبقة الأولى:

تشمل هذه الطبقة الفنان العفوي، وأعتقد أنه الفنان الأصل إذا ما استطعنا الاعتبار والفهم بأن إنسان المغارات والكهوف هو أول فنان قدم لنا شهادة من حياة أوعن حياة، وترك لنا ما سميناه الآن ب: Art pariétal, Art Rupestre.. لهذا، فالفطرية هي أصل العبارة التشكيلية. والفنان الفطري المعاصر هو من لا زال على سنة الجد الأول. ونظرا لأن الفطرية تعتمد على التوازن الطبيعي فإن الاستجابة لا مناص ستكون استجابة نفسية بامتياز.

الطبقة الثانية:

هو الفنان الموسوعي، أي ذاك القادم من علوم أخرى كالطب والقانون والموسيقى والأدب…. ونظرا لشساعة زاوية نظر هذا الفنان فلا بد أن استجابته الفنية ستكون استجابة فكرية بامتياز.

الطبقة الثالثة:

هو الفنان الأكاديمي، وأفضّل عبارة المدرسي scolastique لأنه لا وجود لأكاديمية الفنون ببلدنا على الأقل، الذي حصر تكوينه في الالمام بقوانين وإمكانات وحدود الممارسة الفنية، ولأن المهيمن سيظل هو هاجس القواعد والمعايير المدرسية فإن الاستجابة ستكون تقنية بالضرورة.

العصامية والفعل الابداعي:

إذا كانت طبقات الفنان: من الفطري أي الذي يعمل على سجيته وانفعاله باللون والشكل والمساحة… والموسوعي الوافد من بحور مخالفة بقياسات ومعايير ومسلمات أخرى.. والمدرسي المسيج بقواعد مسبقة والملتزم بخارطة الطريق… إذا كانت كل طبقة تشتغل بهاجس استحواذي معين ووفق شروط خاصة بغاية تحقيق استجابة محددة: نفسية بالنسبة للأولى، فكرية بالنسبة للثانية وتقنية بالنسبة للأخير. فماذا تعني عبارة العصامية بعد هذا؟

أولا، تجدر الملاحظة أن العصامية لفظة لا يقابل ولا يناقض المدرسي، لا كمجرد عبارة ولا كمضمون وجودي، ذلك أننا ونحن نتحدث عن الفن كلحظة ابتكار وإبداع نكون إزاء لحظة الإنجاز الأول، لحظة الانفراد الخالص أمام العالم.. في اعتقادي هنا بالضبط أين يستقيم الحديث عن العصامية. إنها لحظة المواجهة الحاسمة للعالم ولا يهم أن يكون الشخص خريج معهد أو مدرسة أو مركز تكوين أو قادما من مناح أخرى. أجل، فالإبداع ليس حرفة بل لحظة مواجهة للعالم، مساءلته خلخلته تجاوزه… لحظة انتزاع حق الوجود.. فهي إذن، لحظة يتساوى فيها العفوي، الموسوعي والمدرسي   فكلهم لحظتئذ ، عصاميون أمام العالم.

من هنا، أخلص إلى الاستنتاج التالي:

أ – أن العصامية هي لحظة تحقق الفنان المبدع أمام العالم.

ب – أن العصامية هي نقيض الاجترار والتكرار.

ج – أن الفنان الأكاديمي يقابله الفنان الحر.

د – أن كل الطبقات قد تكون مجرد مقلدة ومجترة كما انها قد تبلغ العصامية.

ه – أن الحدود بين الفنان الفطري والفنان الموسوعي والفنان المدرسي حدود غير قارة.

و – أما الفنان الفطري الذي يشتغل داخل قواعد وضوابط المدرسة يكون فاقد الهوية الفطرية أو مهجنا. وكذلك بالنسبة للأكاديمي وللمدرسي.

بعض الأعلام الفنية  العصامية:

كاندنسكي قانون

ماليفيدش

* فنان وروائي وشاعر